مفهوم الدين بين الشرق والغرب
------------------
سوف نخوض فى دراسة مقارنة بايجاز مبسط لمفهوم الدين بين كلا من الفكر الغربي والفكر الاسلامي اي بين العالم الشرقي والعالم الغربي
أولا معنى الدين في اللغة -
يجدر بنا في البداية تتبع كلمة الدين في اللغة مما قد يفيدنا في إعطاء صورة عامة عن الإطار الذي تشكلت في ضوئه جملة التعريفات المختلفة للفظ الدين
تنطوي كلمة الدين على معان عديدة ومتشعبة حتى يبدو أنه يستعمل في معاني متباعدة بل متناقضة ، فالدين هو المالك وهو الخدمة هو القهر هو الذل هو الإكراه هو الإحسان هو العادة والعبادة وهو السلطان وهو الخضوع هو الإسلام والتوحيد وهو اسم لكل ما يعتقد أو لكل ما يتعبد به .
وتبعاً لهذا التباين والاختلاف في تحديد معنى الدين لغة أثيرت مسألة عدم أصالة هذه الكلمة في اللغة العربية ، وأنها دخيلة من لغات كالعبرية أو الفارسية .
والمتصفح في اشتقاق هذه الكلمة ووجوه تصريفها يستشف من هذا الاختلاف الظاهر تقاربا شديدا ، بل توافقا وانسجاما في جوهر المعنى ، إذ يجد أن تنوع هذه المعاني مرده إلى ثلاثة مضامين تكاد تكون متصلة باعتبار أن الكلمة التي يراد شرحها ليست كلمة واحدة ، بل ثلاث كلمات ، أو بعبارة أدق أنها تتضمن ثلاثة أفعال بالتناوب .
إن كلمة الدين تأتي مرة من فعل متعد بنفسه ، دانه يدينه ، وأحيانا من فعل متعد باللام: دان له ، وتارة من فعل متعد بالباء ، دان به ، وباختلاف الاشتقاق يختلف المضمون الذي تعطيه العبارة .
1) إذا قلنا دانه دينا قصدنا بذلك أنه ملكه ، وساسه وقهره ، وحاسبه ، وجازاه وكافأه . فالدين هنا يأخذ معنى الجلال والملك والتصرف بما هو ميزه بالملوك من الملك والتصرف . ومن ذلك : مالك يوم الدين أي يوم المحاسبة والجزاء .
2) وإذا قلنا دان له بمعنى أطاعة وخضع له ، فالدين هنا هو الطاعة والخضوع والعبادة كقوله تعالى ( إنا لمدينون ) أي مملوكون .
وواضح أن هذا المعنى الثاني ملازم للأول ومطاوع له دانه فدان له ، أي أجبره على الطاعة فخضع وأطاع .
3) وإذا قلنا دان بالشيء بمعني أنه اتخذه دينا ومذهبا أي اعتقده أو اعتاده أو تخلق به فالدين هنا هو المذهب والطريقة التي يلتزم بها الشخص نظريا أو عمليا . تقول العرب : ما زال ديني وديدني أي عادتي ،و المذهب النظري عنده عقيدته ورأيه الذي يعتنقه ، ومن ذلك قولهم دينت الرجل أي وكلته إلي دينه ولم أعترض عليه فيما يعتنقه .
4) تأكيدا على هذه المعاني اللغوية فإن كلمة الدين عند العرب تتضمن علاقة بين طرفين يعظم أحدهما الأخر ويخضع له فإذا وصف بها الطرف الأول كانت خضوعا وانقيادا ، وإذا وصف بها الثاني كانت أمرا وسلطانا ، وحكما وإلزاما ، وإذا وصف بها إلى طبيعة العلاقة بين الطرفين كانت هي الطريقة المنظمة لتلك العلاقة أو الشكل الذي يمثلها .
جاء في تعريف أخوان الصفا أن الدين ( هو شيئان أثنان أحدهما الأصل وملاك الأمر ، وهو الاعتقاد في الضمير والأخر هو الفرع المبني عليه القول والعمل في الجهر والإعلان)
ولقد أوضح الجرجاني – بشكل جلي – الفرق بين الدين والملة فهما عنده متحدان بالذات ، ومختلفان بالاعتبار ، فإن الشريعة من حيث أنها تطاع تسمى دينا ، ومن حيث أنها تجمع تسمى ملة ، ومن حيث أنها يرجع إليها تسمى مذهبا ، وقيل الفارق بين الملة والدين والمذهب ، أن الدين منسوب إلى الله تعالى والملة منسوبة إلى الرسول – صلي الله عليه وسلم – والمذهب منسوب إلى المجتهد ( ).
أما أشهر تعريف للدين في الفكر الاسلامي وأكثره تداولا ما نسب إلى التهانوي في قوله : إنه (وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال والفلاح في المال ، وهذا يشمل العقائد والأعمال ، ويطلق على ملة كل نبي ، وقد يخص بالاسلام كما في قوله تعالى (إن الدين عند الله الاسلام ) ويضاف إلى الله عز وجل لصدوره عنه ، وإلى النبي صلى الله عليه وسلم لظهوره منه وإلى الأمة لتدينهم به وانقيادهم له )
ويمكن تلخيصه بأن الدين هو وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقادات وإلى الخير في السلوك والمعاملات .
يبدو من التعريف الإسلامي أنه حصر مسمى الدين في دائرة الأديان الصحيحة، المنبثقة من الوحي الإلهي ، وهي التي تتخذ معبودا واحدا هو الخالق المهيمن على كل شيء فالديانة الطبيعية التي تستند إلى العقل ، والديانات الخرافية التي هي ثمرة الأوهام والأساطير ، والديانات الوثنية التي تتخذ من التماثيل آلهة لا ينطبق عليها تعريف الدين مع أن القرآن الكريم قد سماها كذلك حيث يقول ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا ) ويقول : (لكم دينكم ولي دين ) .
ثانياً : مفهوم الدين في الفكر الغربي
ظل مفهوم الدين في الفكر الغربي يفتقد الوضوح والتحديد بل لم يكن هناك فارقاً بين الأديان السماوية والأديان الوثنية والمذاهب الوضعية وضع الجميع في بوتقة واحدة في المحاولة للوصول إلى معاني مبهمة وغامضة وتكاد تكون اقرب من الخيال إلى الحقيقة، والشواهد على ذلك كثيرة وقد ذكرت موسوعة الإنكارتا الإلكترونية.
Microsoft Encarta, encyclopedia
" أن الدين هو ارتباط الإنسان بالمقدس الذي يؤدي إلى الاعتقاد في الحقيقة الروحية... وهو الظاهرة العالمية التي لعبت الجزء الهام في كل التراث الإنساني، وبالتالي فهو أوسع بكثير وأكثر تعقيداً من أن يكون مجموعة من الاعتقادات أو الممارسات الموجودة في أي ديانة تقليدية، والفهم المعقول للدين يجب أن يأخذ في الاعتبار نوعياته المتميزة و أنماطه المختلفة كشكل من الخبرة الإنسانية"
والفكر الغربي يعلن صراحة عن عجزه في إيجاد تعريف محدد واضح عن مصطلح الدين ففي موسوعة كتاب العالم الأمريكية the world book encyclopedia
* "لا يوجد تعريف بسيط للدين يمكن أن يصف الأديان الكثيرة الموجودة الآن في العالم"
"وترى الموسوعة أن الدين من منظور الغالبية العظمى يعتبر مجموعة منظمة من الاعتقادات والطقوس والممارسات والعبادات التي تدور حول إله أسمى"
وقد عرف أستاذ اللاهوت البروتستانتي والفيلسوف الألماني فريدريك شلا يرماخرfriedrich scheielmacher (1768-1834) " الدين هو الشعور باعتقاد المطلق.
Feeling of obsolete dependence
وجاء من بعده الفيلسوف الفرنسي الكاثوليكي أوجست كونت Auguste conte ( 1798- 1857): مؤسس علم الاجتماع وزعيم الفلسفة الوضعية الملحدة وقال: "إن قوانين العلم التجريبي تغني عن الإيمان بالله" ، وأضاف إن الاعتقاد في ذوات عاقلة أو إرادات عليا لم يكن إلا تصوراً يخفي جهلنا بالأسباب الطبيعية، وأن العالم الطبيعي لا يبقي فراغاً يسده الاعتقاد بوجود إله، وإلا يبقي سبباً يدفعنا إلى الإيمان"
وينتهي كونت إلى رفض الدين كلية، ولكنه سرعان ما يتناقض مع نفسه، ثم يقوم بوضع دين جديد أسماه (دين الإنسانية)
وفي تعريف موسوعة أديان العالم
وهذه الموسوعة تتبنى تعريف الدين كما جاء به قاموس أكسفورد حيث تعرف الدين بأنه: "التسليم أو الاعتراف بوجود قدرة متحكمة فوق بشرية، وخصوصاً الإله ذو الطبيعة الواعية وهذه القدرة تدعي الحق في إطاعتها"
"belief in and reverence for aspernataral power recognized as the creator and governor of the universes"
وهذا التعريف لا يفيد من قريب أو بعيد في تحديد طبيعة تلك القدرة الفوق بشرية وماهيتها، ولم يبين التعريف هل هذه القدرة هي التي خلقت الإنسان، أم أنه مخلوق بغيرها وهل هذه القدرة خالقة بوجه عام أم هي قدرة مخلوقة بدورها، كما لم يذكر التعريف أي كمالات لهذه القدرة، أم أنها قدرة خالية من الكمالات، وطاعة هذه القدرة كما يبدو من التعريف هي طاعة اختيارية، وليست ملزمة للإنسان كما لم يذكر لنا التعريف على ماذا نطيع هذه القدرة، أما في التعريف الأمريكي فقد ذكر في قاموس الميراث الأمريكي.
The American heritage dictionary
فهو يعرف الدين أنه: "الإيمان في، والشعر بالورع تجاه قدرة فوق الطبيعة يعترف بها بأنها القدرة الخالقة والمتحكمة في هذا الكون".
The recognition of superhuman controlling power, and especially of personal god, entitled to obedience"
وهذا التعريف ربط الدين بالإيمان بالخلق وأن هذا الخالق هو المتحكم في الكون، وعلي الرغم من ذلك فهو لم يحدد لنا ماهية هذا الخالق وطبيعته كما أنه لا يضيف جديد للفكر البشري تجاه الدين
أما في قاموس وبستر الموسوعي المطول
Webester,s encyclopedic nudged dictionary
فهو يعرف الدين بأنه : " مجموعة معينة من الاعتقادات الأساسية
والممارسات التي يتفق عليها بصفة عامة عدد من الأفراد والطوائف مثل الديانة المسيحية".
وهذا التعريف مشابه لتعريف كوربت في كتابه الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث ذكر أن الدين هو:" نظام متكامل من المعتقدات وأسلوب حياة وشعائر ومؤسسات يمكن للأفراد خلالها أن يعطوا أو يحددوا معنى لحياتهم بالتوجه إلى والالتزام بما يعتبرونه مقدساً أو له قيمة نهائية "
وتعريف كوربت يصور الدين كمجرد نشاط اجتماعي تتفق عليه الفئة فحسب وتحقق لهم رضى ما..... ولا يهم طبيعة المضامين التي يحويها هذا الدين.
أما الموسوعة البريطانية فتعرف الدين على النحو التالي:
"الدين هو علاقة الإنسان بما يعتبره مقدساً أو روحي إلهي"
Religion: human beings relation to that which they regard as holy, sacred, spiritual, or divine
أما قاموس موسوعة كتاب العالم فلم يزد تعريف الدين لديه عن ثلاث أو أربع كلمات هي: ( الدين هو الاعتقاد في إله أو آلهة (
(Religion: belief in God or gods)
وهذا التعريف يفتقد قضية الخلق وكون الإنسان مخلوق لله أو أنه ناتج طبيعي لقوانين الطبيعة!!
ويعرف أميل دور كايم Emile Durcheim (1858- 1917) الدين بأنه "مجموعة متساندة من الاعتقادات والأعمال المتعلقة بالأشياء المقدسة اعتقادات وأعمال تضم أبنائها في وحدة معنوية واحدة تسمى الملة"
وتعريف دور كايم يفتقد الإشارة إلى الله سبحانه وتعالى وإلى قضية الخلق وبهذا افتقد لمعاني الألوهية والربوبية والعبودية معاً بحيث تتساوى جميع الأديان أمام هذا التعريف، بل يضم هذا التعريف من حيث قناعيته بمفهوم الدين المذاهب الفكرية والفلسفية من إلحاد وماركسية وعلمانية ومادية وغيرها من المذاهب الفكرية المختلفة
ويعرف سالمون ريناك الدين بأنه " هو مجموعة من التورعات التي تقف أمام الحرية المطلقة لتصرفاتنا" . وهو تعريف أقرب ما يكون للكفر من الإيمان، حيث استبعد فكرة الألوهية والخلق تماماً من الدين بل واعتبره قيوداً مفروضة يجعل من المذاهب الفكرية حرية مما يدفع بالتخلص منه ، وأيضاً يجعل من المذاهب الفكرية أدياناً في حد ذاتها ، أما الفيلسوف الألماني كانط في مؤلفة الدين فى حدود العقل فيعرفه بقوله:" الدين هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية"
أما ماكس ميللر فيعرف الدين يقوله : "الدين هو محاولة تصور ما لا يمكن تصوره، والتعبير عما لا يمكن التعبير عنه، هو التطلع إلى اللانهائي هو حب الله " ويعرفه روبرت سبنسر بتعريف مشابه بقوله.
" الدين هو الإيمان بقوة لا يمكن تصور نهايتها الزمانية والمكانية"
وهذين التعريفين لكل من ماكس ميللر وروبرت سبنسر ليسا إلا انفعال ذاتي بالإحساس الفطري بوجود الله سبحانه وتعالى في النفس البشرية.
ومما سبق نجد ان الرؤية لم تزل غير مكتملة المعالم لمفهوم الدين في الفكر الغربي
وهذا يعود لتخبط الايدولوجيات في المناخ الفكري والروحاني في العالم الغربي
وسوف نستكمل الدراسة فى اجزاء اخرى
د وفاء العمري
--------------------------------------------------------------------------------
مراجع الدراسة
- محمد الغزالي ، ليس من الأسلام ( القاهرة – مكتبة وهبة – ط6 ، 1993 ) ص 137 .
- رسائل أخوان الصفا ، 7 / 244 .
(- الجرجاني ، التعريفات ، تحقيق إبراهيم الأبياري ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، 2002 ص 90 .
-التهانوي ، كشف اصطلاحات الفنون والعلوم ، بيروت ، مكتبة لبنان ناشرون ، 1996 ، 1/814 .
-محمد الحسينى إسماعيل – سيكولوجية الدين والتدين – مجلة الحقيقة
- أوجست كونت – الحقيقة المطلقة – الله والدين والإنسان
- world religions, from ancient history to present, Geoffrey porringer, newyorkpp. g
- ما يكل كوربت وجوليا متشل كوربت- الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية/ الجزء الأول – ترجمة د. عصام فايز و د/ ناهد وصفي – مكتبة الشروق – صـ12
------------------
سوف نخوض فى دراسة مقارنة بايجاز مبسط لمفهوم الدين بين كلا من الفكر الغربي والفكر الاسلامي اي بين العالم الشرقي والعالم الغربي
أولا معنى الدين في اللغة -
يجدر بنا في البداية تتبع كلمة الدين في اللغة مما قد يفيدنا في إعطاء صورة عامة عن الإطار الذي تشكلت في ضوئه جملة التعريفات المختلفة للفظ الدين
تنطوي كلمة الدين على معان عديدة ومتشعبة حتى يبدو أنه يستعمل في معاني متباعدة بل متناقضة ، فالدين هو المالك وهو الخدمة هو القهر هو الذل هو الإكراه هو الإحسان هو العادة والعبادة وهو السلطان وهو الخضوع هو الإسلام والتوحيد وهو اسم لكل ما يعتقد أو لكل ما يتعبد به .
وتبعاً لهذا التباين والاختلاف في تحديد معنى الدين لغة أثيرت مسألة عدم أصالة هذه الكلمة في اللغة العربية ، وأنها دخيلة من لغات كالعبرية أو الفارسية .
والمتصفح في اشتقاق هذه الكلمة ووجوه تصريفها يستشف من هذا الاختلاف الظاهر تقاربا شديدا ، بل توافقا وانسجاما في جوهر المعنى ، إذ يجد أن تنوع هذه المعاني مرده إلى ثلاثة مضامين تكاد تكون متصلة باعتبار أن الكلمة التي يراد شرحها ليست كلمة واحدة ، بل ثلاث كلمات ، أو بعبارة أدق أنها تتضمن ثلاثة أفعال بالتناوب .
إن كلمة الدين تأتي مرة من فعل متعد بنفسه ، دانه يدينه ، وأحيانا من فعل متعد باللام: دان له ، وتارة من فعل متعد بالباء ، دان به ، وباختلاف الاشتقاق يختلف المضمون الذي تعطيه العبارة .
1) إذا قلنا دانه دينا قصدنا بذلك أنه ملكه ، وساسه وقهره ، وحاسبه ، وجازاه وكافأه . فالدين هنا يأخذ معنى الجلال والملك والتصرف بما هو ميزه بالملوك من الملك والتصرف . ومن ذلك : مالك يوم الدين أي يوم المحاسبة والجزاء .
2) وإذا قلنا دان له بمعنى أطاعة وخضع له ، فالدين هنا هو الطاعة والخضوع والعبادة كقوله تعالى ( إنا لمدينون ) أي مملوكون .
وواضح أن هذا المعنى الثاني ملازم للأول ومطاوع له دانه فدان له ، أي أجبره على الطاعة فخضع وأطاع .
3) وإذا قلنا دان بالشيء بمعني أنه اتخذه دينا ومذهبا أي اعتقده أو اعتاده أو تخلق به فالدين هنا هو المذهب والطريقة التي يلتزم بها الشخص نظريا أو عمليا . تقول العرب : ما زال ديني وديدني أي عادتي ،و المذهب النظري عنده عقيدته ورأيه الذي يعتنقه ، ومن ذلك قولهم دينت الرجل أي وكلته إلي دينه ولم أعترض عليه فيما يعتنقه .
4) تأكيدا على هذه المعاني اللغوية فإن كلمة الدين عند العرب تتضمن علاقة بين طرفين يعظم أحدهما الأخر ويخضع له فإذا وصف بها الطرف الأول كانت خضوعا وانقيادا ، وإذا وصف بها الثاني كانت أمرا وسلطانا ، وحكما وإلزاما ، وإذا وصف بها إلى طبيعة العلاقة بين الطرفين كانت هي الطريقة المنظمة لتلك العلاقة أو الشكل الذي يمثلها .
جاء في تعريف أخوان الصفا أن الدين ( هو شيئان أثنان أحدهما الأصل وملاك الأمر ، وهو الاعتقاد في الضمير والأخر هو الفرع المبني عليه القول والعمل في الجهر والإعلان)
ولقد أوضح الجرجاني – بشكل جلي – الفرق بين الدين والملة فهما عنده متحدان بالذات ، ومختلفان بالاعتبار ، فإن الشريعة من حيث أنها تطاع تسمى دينا ، ومن حيث أنها تجمع تسمى ملة ، ومن حيث أنها يرجع إليها تسمى مذهبا ، وقيل الفارق بين الملة والدين والمذهب ، أن الدين منسوب إلى الله تعالى والملة منسوبة إلى الرسول – صلي الله عليه وسلم – والمذهب منسوب إلى المجتهد ( ).
أما أشهر تعريف للدين في الفكر الاسلامي وأكثره تداولا ما نسب إلى التهانوي في قوله : إنه (وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال والفلاح في المال ، وهذا يشمل العقائد والأعمال ، ويطلق على ملة كل نبي ، وقد يخص بالاسلام كما في قوله تعالى (إن الدين عند الله الاسلام ) ويضاف إلى الله عز وجل لصدوره عنه ، وإلى النبي صلى الله عليه وسلم لظهوره منه وإلى الأمة لتدينهم به وانقيادهم له )
ويمكن تلخيصه بأن الدين هو وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقادات وإلى الخير في السلوك والمعاملات .
يبدو من التعريف الإسلامي أنه حصر مسمى الدين في دائرة الأديان الصحيحة، المنبثقة من الوحي الإلهي ، وهي التي تتخذ معبودا واحدا هو الخالق المهيمن على كل شيء فالديانة الطبيعية التي تستند إلى العقل ، والديانات الخرافية التي هي ثمرة الأوهام والأساطير ، والديانات الوثنية التي تتخذ من التماثيل آلهة لا ينطبق عليها تعريف الدين مع أن القرآن الكريم قد سماها كذلك حيث يقول ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا ) ويقول : (لكم دينكم ولي دين ) .
ثانياً : مفهوم الدين في الفكر الغربي
ظل مفهوم الدين في الفكر الغربي يفتقد الوضوح والتحديد بل لم يكن هناك فارقاً بين الأديان السماوية والأديان الوثنية والمذاهب الوضعية وضع الجميع في بوتقة واحدة في المحاولة للوصول إلى معاني مبهمة وغامضة وتكاد تكون اقرب من الخيال إلى الحقيقة، والشواهد على ذلك كثيرة وقد ذكرت موسوعة الإنكارتا الإلكترونية.
Microsoft Encarta, encyclopedia
" أن الدين هو ارتباط الإنسان بالمقدس الذي يؤدي إلى الاعتقاد في الحقيقة الروحية... وهو الظاهرة العالمية التي لعبت الجزء الهام في كل التراث الإنساني، وبالتالي فهو أوسع بكثير وأكثر تعقيداً من أن يكون مجموعة من الاعتقادات أو الممارسات الموجودة في أي ديانة تقليدية، والفهم المعقول للدين يجب أن يأخذ في الاعتبار نوعياته المتميزة و أنماطه المختلفة كشكل من الخبرة الإنسانية"
والفكر الغربي يعلن صراحة عن عجزه في إيجاد تعريف محدد واضح عن مصطلح الدين ففي موسوعة كتاب العالم الأمريكية the world book encyclopedia
* "لا يوجد تعريف بسيط للدين يمكن أن يصف الأديان الكثيرة الموجودة الآن في العالم"
"وترى الموسوعة أن الدين من منظور الغالبية العظمى يعتبر مجموعة منظمة من الاعتقادات والطقوس والممارسات والعبادات التي تدور حول إله أسمى"
وقد عرف أستاذ اللاهوت البروتستانتي والفيلسوف الألماني فريدريك شلا يرماخرfriedrich scheielmacher (1768-1834) " الدين هو الشعور باعتقاد المطلق.
Feeling of obsolete dependence
وجاء من بعده الفيلسوف الفرنسي الكاثوليكي أوجست كونت Auguste conte ( 1798- 1857): مؤسس علم الاجتماع وزعيم الفلسفة الوضعية الملحدة وقال: "إن قوانين العلم التجريبي تغني عن الإيمان بالله" ، وأضاف إن الاعتقاد في ذوات عاقلة أو إرادات عليا لم يكن إلا تصوراً يخفي جهلنا بالأسباب الطبيعية، وأن العالم الطبيعي لا يبقي فراغاً يسده الاعتقاد بوجود إله، وإلا يبقي سبباً يدفعنا إلى الإيمان"
وينتهي كونت إلى رفض الدين كلية، ولكنه سرعان ما يتناقض مع نفسه، ثم يقوم بوضع دين جديد أسماه (دين الإنسانية)
وفي تعريف موسوعة أديان العالم
وهذه الموسوعة تتبنى تعريف الدين كما جاء به قاموس أكسفورد حيث تعرف الدين بأنه: "التسليم أو الاعتراف بوجود قدرة متحكمة فوق بشرية، وخصوصاً الإله ذو الطبيعة الواعية وهذه القدرة تدعي الحق في إطاعتها"
"belief in and reverence for aspernataral power recognized as the creator and governor of the universes"
وهذا التعريف لا يفيد من قريب أو بعيد في تحديد طبيعة تلك القدرة الفوق بشرية وماهيتها، ولم يبين التعريف هل هذه القدرة هي التي خلقت الإنسان، أم أنه مخلوق بغيرها وهل هذه القدرة خالقة بوجه عام أم هي قدرة مخلوقة بدورها، كما لم يذكر التعريف أي كمالات لهذه القدرة، أم أنها قدرة خالية من الكمالات، وطاعة هذه القدرة كما يبدو من التعريف هي طاعة اختيارية، وليست ملزمة للإنسان كما لم يذكر لنا التعريف على ماذا نطيع هذه القدرة، أما في التعريف الأمريكي فقد ذكر في قاموس الميراث الأمريكي.
The American heritage dictionary
فهو يعرف الدين أنه: "الإيمان في، والشعر بالورع تجاه قدرة فوق الطبيعة يعترف بها بأنها القدرة الخالقة والمتحكمة في هذا الكون".
The recognition of superhuman controlling power, and especially of personal god, entitled to obedience"
وهذا التعريف ربط الدين بالإيمان بالخلق وأن هذا الخالق هو المتحكم في الكون، وعلي الرغم من ذلك فهو لم يحدد لنا ماهية هذا الخالق وطبيعته كما أنه لا يضيف جديد للفكر البشري تجاه الدين
أما في قاموس وبستر الموسوعي المطول
Webester,s encyclopedic nudged dictionary
فهو يعرف الدين بأنه : " مجموعة معينة من الاعتقادات الأساسية
والممارسات التي يتفق عليها بصفة عامة عدد من الأفراد والطوائف مثل الديانة المسيحية".
وهذا التعريف مشابه لتعريف كوربت في كتابه الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث ذكر أن الدين هو:" نظام متكامل من المعتقدات وأسلوب حياة وشعائر ومؤسسات يمكن للأفراد خلالها أن يعطوا أو يحددوا معنى لحياتهم بالتوجه إلى والالتزام بما يعتبرونه مقدساً أو له قيمة نهائية "
وتعريف كوربت يصور الدين كمجرد نشاط اجتماعي تتفق عليه الفئة فحسب وتحقق لهم رضى ما..... ولا يهم طبيعة المضامين التي يحويها هذا الدين.
أما الموسوعة البريطانية فتعرف الدين على النحو التالي:
"الدين هو علاقة الإنسان بما يعتبره مقدساً أو روحي إلهي"
Religion: human beings relation to that which they regard as holy, sacred, spiritual, or divine
أما قاموس موسوعة كتاب العالم فلم يزد تعريف الدين لديه عن ثلاث أو أربع كلمات هي: ( الدين هو الاعتقاد في إله أو آلهة (
(Religion: belief in God or gods)
وهذا التعريف يفتقد قضية الخلق وكون الإنسان مخلوق لله أو أنه ناتج طبيعي لقوانين الطبيعة!!
ويعرف أميل دور كايم Emile Durcheim (1858- 1917) الدين بأنه "مجموعة متساندة من الاعتقادات والأعمال المتعلقة بالأشياء المقدسة اعتقادات وأعمال تضم أبنائها في وحدة معنوية واحدة تسمى الملة"
وتعريف دور كايم يفتقد الإشارة إلى الله سبحانه وتعالى وإلى قضية الخلق وبهذا افتقد لمعاني الألوهية والربوبية والعبودية معاً بحيث تتساوى جميع الأديان أمام هذا التعريف، بل يضم هذا التعريف من حيث قناعيته بمفهوم الدين المذاهب الفكرية والفلسفية من إلحاد وماركسية وعلمانية ومادية وغيرها من المذاهب الفكرية المختلفة
ويعرف سالمون ريناك الدين بأنه " هو مجموعة من التورعات التي تقف أمام الحرية المطلقة لتصرفاتنا" . وهو تعريف أقرب ما يكون للكفر من الإيمان، حيث استبعد فكرة الألوهية والخلق تماماً من الدين بل واعتبره قيوداً مفروضة يجعل من المذاهب الفكرية حرية مما يدفع بالتخلص منه ، وأيضاً يجعل من المذاهب الفكرية أدياناً في حد ذاتها ، أما الفيلسوف الألماني كانط في مؤلفة الدين فى حدود العقل فيعرفه بقوله:" الدين هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية"
أما ماكس ميللر فيعرف الدين يقوله : "الدين هو محاولة تصور ما لا يمكن تصوره، والتعبير عما لا يمكن التعبير عنه، هو التطلع إلى اللانهائي هو حب الله " ويعرفه روبرت سبنسر بتعريف مشابه بقوله.
" الدين هو الإيمان بقوة لا يمكن تصور نهايتها الزمانية والمكانية"
وهذين التعريفين لكل من ماكس ميللر وروبرت سبنسر ليسا إلا انفعال ذاتي بالإحساس الفطري بوجود الله سبحانه وتعالى في النفس البشرية.
ومما سبق نجد ان الرؤية لم تزل غير مكتملة المعالم لمفهوم الدين في الفكر الغربي
وهذا يعود لتخبط الايدولوجيات في المناخ الفكري والروحاني في العالم الغربي
وسوف نستكمل الدراسة فى اجزاء اخرى
د وفاء العمري
--------------------------------------------------------------------------------
مراجع الدراسة
- محمد الغزالي ، ليس من الأسلام ( القاهرة – مكتبة وهبة – ط6 ، 1993 ) ص 137 .
- رسائل أخوان الصفا ، 7 / 244 .
(- الجرجاني ، التعريفات ، تحقيق إبراهيم الأبياري ، بيروت ، دار الكتاب العربي ، 2002 ص 90 .
-التهانوي ، كشف اصطلاحات الفنون والعلوم ، بيروت ، مكتبة لبنان ناشرون ، 1996 ، 1/814 .
-محمد الحسينى إسماعيل – سيكولوجية الدين والتدين – مجلة الحقيقة
- أوجست كونت – الحقيقة المطلقة – الله والدين والإنسان
- world religions, from ancient history to present, Geoffrey porringer, newyorkpp. g
- ما يكل كوربت وجوليا متشل كوربت- الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية/ الجزء الأول – ترجمة د. عصام فايز و د/ ناهد وصفي – مكتبة الشروق – صـ12
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق