
صانع الخرز
قصة قصيرة .. بقلم / علي حزين
في اشراقة كل صباح .. تستطيع ان تضبط ساعتك .. يخرج من زنزانة .. بالدور الرابع علي ايدك اليمين وانت طالع .. في اخر الممر الضيق ..يتسند جدران السجن .. وبيده صرة صغيرة .. وما ان يصل الي الشباك الحديدي .. الذي يطل علي الفناء .. وغرفة الإعدام .. وممر الزيارات .. وحديقة السجن.. يجلس علي خرقة صغيرة .. يفرشها تحته .. ببطء .. يضع اغراضه امامه .. وهي عبارة عن كمية صغيرة .. من علب البرشام البلاستكية الفارغة .. والتي يتعاطاها لمرضه ..وقد ملأها بالخرز .. وخيوط سلكية شفافة رفيعة" اظن انه سلك لصيد الاسماك .. وعلبة إبر رفيعة .. ثم يشرع في عمله .. يلضم الأبرة بخفة وحرفية فائقة النظير .. يغرس الأبرة الرفيعة .. داخل كومة من الخرز بألوان الطيف .. موضوعة في غطاء ورقي .. لعلبة جبنة نوستن .. أحضرها خصيصا لذلك الغرض .. يعبئها ثم يرفعها الي اعلي .. ويعد بأصابع مرتعشة .. خشيت ان يكون قد اخطأ العد ..
ــ واحد .. اتنين ... تــ ...
"زنزانته في اخر الممر الضيق..محكوم عليهم بالمؤبد..في قضية مخدرات"
معروف للجميع .. طيب .. متواضع .. وديع .. كريم .. محبوب من كل السجن
ولا يؤذي احد .. منهمك في عمله .. ولا يحتك بأحدٍ ... ولا أحد يحتك به .. لكنه يعرف كل كبيرة .. وصغيرة تدور من حوله في العنبر ..
ــ واحد .. اتنين ... تــ ...
عندما يضحك .. تري في عيناه الدموع .. ويده المرتعشه مازالت تعمل .. تسمعه يردد دائماً ..
ــ طاب ابن الذين .. كان سرق الحرز ومضربنيش علي رأسي .. اه لو اعرفه اشرب من دمه ..
ــ صباح الخير يا عم " محمد يا فيومي "
هكذا ينادونه .. نارعلي علم .. مشهور في السجن كله .. والكل يحبه .. وانا واحدا من هؤلاء .. معجب بشخصيته القوية .. التي تشبه شخصية ابي .. بل كنت اري فيه ابي .. بكل طيبتة .. وحنيته.. لدرجة أني كنت اجلس بجواره بالساعات الطوال .. اضحك معه انظر اليه .. اتابعة .. واحكي معه ..
ــ امك في العش ولا طارت ..
ــ لسه بتبيض .. ههههه
قصته معروفة .. ومشهورة للجميع .. والتي لا يكل .. ولا يمل ان يحكيها .. بكل تفاصيلها .. لكل من يجلس بجواره .. فلا تجد نفسك الأ ان تصدقه .. وتتعاطف معه أيضاً ..
" كان يعمل صول في المينا .. وفي احدي المرات .. وفي ليلة من ليالي الشتاء الممطرة .. والبرد فيها كان شديد .. وقارص .. وكان يحرس غرفة الأحراز .. وفي جوفها كميات كبيرة من المخدرات .. ضبطت عند محاولة لتهريبها .. ذهب غير بعيد ليقضي حاجته .. ولما عاد وجد غرفة الاحراز مواربة .. وسمع من داخلها اصوات همهمات غريبة .. تسلل في صمت .. بعدما امسك بسلاحه الميري المعمر .. وما ان دخل .. وبحث عن ٌكبس النور فلم يدري بالدنيا من حوله.. الا وهو في المشفى .. وعندما فتح عينية اكتشف انه قد شجت رأسه.. ووجهت له تهمت سرقة الحرز..شكلوا له محكمة عاجلة .. اخذ خمس وعشرون عام .."
ــ واحد .. اتنين ... تــ ...
" تنبهر بما يصنع .. وتعجب عجبا شديداً.. فهو يستطيع ان يحول حبات الخرز الصغيرة .. التي لا تتعدي قبضة اليد .. ليصنع منها اشياء رائعة .. تحف فنية مبهرة .. ومدهشة .. هالني , وشدني ما يصنع ..
" انسيلات .. بك حريمي .. ُكليه.. شنط .. سبح للمصلين .. طقم حريمي كامل ..عبارة عن عقد , وخاتم , وانسيال, وحلق .. والمدهش في الأمر .. لديه قدرة فائقة علي تصنيع عقد من الفل.. واخر علي هيئة ثعبان.. وثالث علي هيئة حبات سِبح.. واقراط بأشكال مختلفة , ومتنوعة كذلك .. كما يحب ويهوي الزبون .. وصور مزخرفة.. وربما كتب اسم معين ..او حكمة في برواز من الخرز نفسه"
طلبت منه ان يعلمني .. كيف اصنع مثلة .. برهة تفرسني فيها بعينين صغرتين حادتين ثم سألني
ــ واخد كام سنة
ــ واحد .. اثنين ..
ضحك حتى بانت نواجزه .. وعاد ليغرس بصره .. في غطاء العلبة الورقية من جديد.. ليلضم الخرز في الإبرة الرفيعة .. وقد وضع سيجارة اعطيتها له في فمه .. وراح يجز علي اسنانه .. ويحجز الخرز ببنانه .. وتابع يقول :
ـــ الشغلانه دي يا ابني بتاخد وقت طويل .. دي شغلانت الاحكام التقيلة .. عشان تعرف تعيش في السجن .. وانت جاي هنا زيارة ومروح
ـــ طاب بص انا اخدمك وانت تعلمني ..
ولما وجدني مصر ومصمم وتحت الألحاح الشديد .. والترجي .. ضحك وهز راسه بالموافقة ..
ــ وانت ايه اللي عاجبك في الشغلانه الزفت دي
ــ بصراحة عجباني قوي يا عم محمد .. واه منها اسلي وقتي بحاجة مفيدة
ــ علي شرط ..؟!. ــ لما يتفتح الباب .. تجيني اطلع الحاجه .. وتفرش .. ولا احتك باحد .. ولا ارد علي احد مهما حدث .. وان كسرت ابرة تدفع ثمنها .. واذا جاتك زيارة تحضرها لي كاملة ههههه
وافقت .. وارتضيت .. وكنت افعل ما قال لي بالحرف .. حدث في احد الايام احد المساجين اراد ان يستظرف .. ويستخف دمه .. واستفزني .. وانا بطبعي سريع الغضب .. وشديد الأنفعال .. فكدت ان اقوم من مكاني لأتشاجر معه وأفتك به .. لولا ان تدخل عم "محمد الفيومي" .. في الحظة الحرجة .. ذكرني بالشروط التي وضعها بيني وبينه .. وبانه سوف يغضب علي .. ولا يجعلني اعمل معه مرة اخري .. فكظمت غيظي .. وكتمت غضبي وانفعالي .. وتدارك هو الامر حتي هدأ الموقف .. وانصرف من حاول ان يستفزنا .. إلي حال سبيله .. وكان ينصحني دائما .. ويطلب مني عدم الاحتكاك بالمساجين .. ولا مخالطتهم الا في حدود ضيقة جدا .. وكان يقول لي دائما
ــ افتكر ابوك وامك .. انت مش عاوز تخرج بالسلامة .. مش عاوز تكمل تعليمك ماضيعش مستقبلك يا ابني ..
ويظل ينصحني .. وينصحني .. وهو يحكي لي عن بعض المساجين الذين دخلوا السجن بست اشهر .. ولم يخرجوا حتي الأن .. لأنهم أخذوا احكام اخري من الداخل .. ومنهم ما وصل إلي التابيد .. بسبب المشاجرات تافهه .. تطورت إلي القتل ..
ــ واحد اثنين .. ثلاثة ..
اسمع في اذاعة السجن من ينادي علي البسطه .. استأذن منه واهرول سريعا عندما اسمع اسمي .. يذداد السجن صخبا وضجيجاً .. يتجمع المساجين يتدافعون .. يشرئبون بأعناقهم .. ويصغون السمع .. يهرولون .. يخبطني احدهم بكنفه ويجري .. وهو يزعق بصوتك الأجش ..
ــ اوعي الحرمية .. خالي بالك من نفسك ..
اتحسس جيوبي خشيت ان اكون قد سرقت .. اتأكد ان سجائري لم تزل في جيبي .. وبعض الأوراق البيضاء .. التي ادون فيها ملاحظاتي , وافكاري .. والقلم .. وعلبة الكبريت .. اجري خلفه لأدفعه كما دفعني .. وما ان اصل الي الأذاعة .. حتي اجد المساجين يعتركون .. كلا يريد ان يأخذ خطابة اولاً .. ادفعهم واخترق الحلبة ..
ــ أنا اسمي اتنده .
ــ اسمك ايه
ــ .........
اخذ منه الخطاب .. واتخلص من وسطهم .. بمعاناة شديدة خرجت .. فضضت الخطاب برسعة .. احتضنت عينايا سطورة .. انه خطاب من أبي
"حضرة المحترم / ابننا العزيز / .............
بعد السلام / والتحية ... والسؤال عن صحتكم الغالية التي نتمناها لكم علي الدوام .. وصلنا خطابكم وفهمنا ما فيه .. وحمدنا الله علي تمام صحتكم الغالية , أما من جهة أي جاجة .. لا يكن عندك شغل ان شاء الله .. منتظرك انا ووالدتك .. يابني كله يهون .. ومن جهة أي جاجة عندك ملهاش عازه اتركها لزملاتك وانت طالع .. فقط الكبرتايه والحاجه المهمة .. احضرها معك .. اما الجرجر.. المواعين .. الصحون .. خلافه .. لا داعي منها .. اتركها ولا تربك نفسك .. منتظرينك علي العيد بخير ... سلام .. ملحوظة لم نتمكن من الأتصال بك يوم الجلسة .. برائة يا أبني لان ربنا عارف اننا ملناش زنب الله يختم بالخير مشوارك ... والسلام ختام .. ملحوظة اخيرة .. نحن مهتمين بك عند الخروج ..ومجهزين لك كل حاجة .. فلا تعول هم شيء وسلام ... والدك العزيز .."
أجلس بجوار عم " محمد" الفيومي ..اعيد قرأة الخطاب .. بعد مرة مرة .. وانا ولم استطع ان امسك دموعي .. اخرج عم محمد سجارة .. اشعلها وأعطانيه وهو يضحك .
ـــ جواب من مين ..؟
ـــ من ابي
ـــ فيه حاجة مش كويسه لا قدر الله ..؟.
دفعت له الخطاب .. وانا احاول حبس دموعي .. اخرجت منديل مسحت وجهي .. واخدت اتابع عملي .. امسكت بعلبة الخرز .. افرغت بعضاً منها .. في الغطاء الورقي .. واخذت اشرع في لقط الخرز .. لأكمل حبات السبحة .. التي سأعطيها لأبي .. مع عقد الفل لأمي .. وعم " محمد " الفيومي يقرأ الخطاب بصوت مسموع .. يتهادي صوت المؤذن من بعيد .. اسمع عم محمد يردد مع الأذان .. اخذ منه الخطاب .. اضعة في جيبي .. ينهض يفرش سجادته .. يكبر ويصلي العصر .. يفرغ يجلس ليخم الصلي اما انا ذهبت الي المصلي.. وعندما عدت طلب مني ان اجهز الغداء.. ثم الشاي الخفيف
ــ نصف معلقة سكر ..
ــ ...........
اقتربت ساعة التمام .. يجب ان يستعد الجميع .. السجن في حالة تأهب .. حركة قوية وغير منقطعة.. هرج .. مرج .. صخب .. تمشي في الممر.. صعود علي السلم الحديدي .. هبوط علي نفس السلم .. نفس الوجوه هي هي .. بنفس الطقس اليومي .. ونفس الأشياء التي يفعلونها .. يفردون البطاطين ينفضونها .. يجمعون الغسيل المنشور.. يذهبون إلي الحمامات .. يتشطفون .. يملائون الجراجل بالماء .. يطلب عم " محمد" ان افرغ بسرعة .. من الذي في يدي .. حتي أغسل الموعين واملأها .. يشعل سجارته الأخيرة .. يلملم اشيائه, يستفها .. يعيدها كما كانت .. باش نبطشي السجن يصفر بالصفارة وقد تجول في العنبر .. وهو يأمر الجميع .. بالدخول الي الزنازين .. ينادي بصوت جهوري
ــ السجن تمام .. تمام السجن ..
يدفع اليّ عم " محمد " ببعض العلب الصغيرة .. بها بعض الخرز .. وعلبة الأبر الرفيعة .. وأكرة الخيط حتي اكمل الشغل .. أخذها منه .. وأنا أوصله الي الزنزانة .. وما ان يصل الشويش الي الدور الرابع .. حتى انطلق كالسهم .. ادخل الحمام .. بسرعة اتوضأ .. املأ مواعيني .. ألّمْ الغسيل المنشور .. انفض بطاطيني .. ثم افرشها فوق النمرة .. أجلس في مكاني .. بجوار حوض التشطيف .. اخرج سيجارة من جيبي .. تصتدم يدي في خطاب والدي .. اخرجة من جيبي .. اقرأه في سري .. والمساجين الذين معي .. في الزنزانة يدخلون تباعاً .. وقد حلي المساء .. وفي داخل كل مسجون .. حكايات لا تنتهي ..!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق