2018/04/12

اعترافات أنثي بريئة - بقلم الأديب / على حزين


قصة قصيرة ... 
اعترافات أنثي بريئة 
أنا أكره أبي .. نعم أكرهه من كل قلبي .. لا تقولوا لي " إنكِ بنت عاقة " لا ,لا يا سادة , أرجوكم توقفوا , لا تستعجلوا في الحكم علىّ , سأخبركم لماذا أنا أكره أبي ..؟! .. ولماذا لا أحبه .؟!.. لكل فعل رد فعل يوازيه في القوة ويعاكسه في الاتجاه , والاندفاع , ولكل شيء سبب , وإذا عُرف السبب بطل العجب , وسأذكر لكم السبب .. أبي رجل فظ غليظ القلب, ليس عنده شفقة ولا رحمة , ولا يحبني , ومن أجل ذلك أنا لا أحبه أيضاً , أنا أبادله كرهاً بكره , فلا تقولوا أني بنت عاقة , توقفوا لحظة , توقفوا أرجوكم ,؟!!.. فهو عَقّني قبل أن أعقه , تصوروا يفضل أولادة الذكور عليّ, بل أكثر من ذلك بكثير, كان لا يريدني أن آتي إلي هذه الحياة أصلاً , كان يريدني ولداً, ولا يريدني بنتاً , هو قال لي ذلك .. فهو يكره البنات , وخلفة البنات , وكثيراً ما كنت أسمع منه هذا, ويتعمد إيذائي, وإيلامُ مشاعري المرهفة , ولا أستطيع أن أردّ عليه إلا بالكره , وعدم الحب , والتمرد عليه , خاصة , عندما كنت أغضبه , وأعصي أوامره , ولا أسمع كلامه , ولا أُنفذ له أي طلب , مهما كان هذا الطلب تافهاً , وبسيطاً , كإحضار الماء له ليشرب , أو البحث عن حذاءه وتقريبه له , أو البحث معه عن حافظة نقوده التي كثيراً ما يضعها في مكان ما وينساها, ولا يعرف مكانها , وهاتفه , وجواربه , ومناديله , أو حتى عندما يناديني , أتصنع بأني نائمة , أو منشغلة ومنهمكة في المذاكرة , أو حتى بأني لم أسمعه , حقيقةً أنا أسمعه , ولكني لا أريد أن أردَّ عليه 
كم من مرة أسمعه يردد , جملته المشهورة التي أكاد أحفظها عن ظهر قلب , والتي أكرهها , وأكرهه معها ..
ــ يقطع البنات وخلفة البنات وسنين البنات أنا عارف لمَ لمْ تأتي ولداً .؟!! 
أنا نمرة اثنين في أبنائه , أخي يكبرني بأربعة أعوام , أمي تأخرت في الإنجاب لأسباب خارجة عن إرادتها , ذهبت لأكبر الأطباء في المدينة , كلهم أكدوا لها من حتمية عملية جراحية , حتى يمكنها بأن تحمل وتلد , طبعا بعدما قاموا معها , بتجريب كل الأدوية بدايةً , وفي نفس الوقت لم يعدوها بشيء , فقط قالوا لها ,
ــ " سنعمل الذي علينا والباقي علي الله " 
أبي كان يتمنى , ويريد عشرة من الأولاد كلهم ذكور , فهو يحب الذكور دون الإناث , أبي رجل سادي بامتياز , في مجتمع ذكوري بطبعة , يكره الإناث , وأنا أكره هذا المجتمع العنصري, وأكره أبي أيضاً , الذي هو واحد منهم , والذي فكر بأن يتزوج بأخرى غير أمي , لتنجب له الأولاد , أمي الطيبة , الجميلة , الوديعة , المغلوبة علي أمرها , فهو دائماً يلقي اللوم عليها , في كل شيء , حتى في عدم الخلفة , وكان دائم التشاجر مع أمي , بسبب هذا الأمر , ولكم باتت أمي ليالي طوال , دمعتها علي خدها , وهي تدعوا الله ليل نهار , بأن يؤاخي لها ابنها الوحيد , وحتى لا تفقد زوجها , بتنفيذ تهديده لها بالزواج عليها بأخرى, حتى جاء موعد العملية , وذهبت مع أمها العجوز , لما تأخرت الدورة كالمعتاد عن ميعادها , ذهبت إلي الطبيب الذي قد أعطاها دواءً من أجل أن تنزل دورتها الشهرية , قبل إجراء العملية .. وكان المطر غزيراً في هذا اليوم , وعند الطبيب كانت المفاجأة .." أمي حامل ,, كيف حدث ذلك ..؟! " .. الطبيب قال .. 
" بأنها أرادة الله وقدرته .. وبأن الطب أحياناً يقف عاجزاً مكتوف الأيدي , مدهوشاً أمام قدرة الله سبحانه وتعالى " ... " يا بشرى أمي حامل "؟!!. الطبيب كان في حالة اندهاش أقرب إلي الذهول , وهو يعيد الكشف عليها مرةً تلو المرة " بالسونار " ليتأكد من ذلك , وهو غير مصدق ما يرى.! , وكيف حدث هذا ..؟!.. " أمي حامل بي , حمل أسبوع فقط " , هكذا قال لها الطبيب " .. بكت أمي من شدة الفرح , نعم بكت وفرحت , وجدتي كادت ان تزغرد, لولا أن أباها كان متوفى لم يتم الأربعين بعد , وتهلل وجه الجميع , وفي طريق العودة .. كانت أمي تحاول استيعاب ما حدث .. وترتب في رأسها أفكارها , وتعد ما ستقوله لأبي , وتتصور ردة فعله عندما يعرف بأنها حامل , ووقع الخبر عليه ....
" قطعا سيفرح , لا , لا , لن يصدق ذلك, وسيتهمني بأني أكذب عليه حتى لا يتزوج عليّ , لا , لا , سأجعله يتأكد بنفسه , فليتصل بالطبيب , أو ليذهب هو بنفسه إليه ليتأكد منه " ...
وفجأة على صوتها دون أن تشعر , وهي تُحدث نفسها بصوت مسموع , لدرجة ألفتت انتباه المارين في الشارع , فلما انتبهت, ولاحظت ذلك أدارت الحديث بصوت خافت في نفسها , وهي تتخيل من جديد .. ماذا سيحدث , وتتوقع ماذا سيفعل أبي عندما يعلم الخبر .. وراحت تقول في نفسها 
" قطعا سيفرح فرحاً شديداً , وربما يرقص عندما يسمع مني الخبر, هو فعلها في حملي الأول , أحمدك يا رب , وأشكر فضلك , أخيراً حامل , لعله يسكت ويُخرج من رأسه فكرة الزواج , أو ينهيها نهائياً " 
تركتها أمها عند أقرب مكان , بعدما ودعتها , ونصحتها بأن تحافظ علي نفسها أولاً , وعلي الذي في بطنها , ونصحتها بأن تخف العمل في المنزل حتى يثبت الحمل , وأمي تهزّ لها رأسها , إيماءً منها بأنها ستفعل كل ذلك , ثم طلبت منها , تغيب وتأتي إليها,أو حتى ترسل لها إحدى أخواتها , كي يساعدنها في عمل البيت,وانصرف كلا منهما في طريق, وإلي حال سبيله ورفعت أمي رأسها للسماء , وقد هدأ المطر قليلاً , وهي مازالت تحدث نفسها .. كيف تخبر أبي بالخبر , وهي تسأل نفسها بنفسها ..
" هل سيصدق أبي هذا الخبر أم لا ..؟..!! 
أبي في نفس اللحظة , كان في البيت , يحادث احد الأصدقاء عبر الهاتف , عده بان يبحث له عن عروسة , مناسبة , وما أن سمع الخبر من أمي , حتى ألقي بالهاتف من يده , وأنهى المكالمة مع صديقه , وبالفعل كما توقعت أمي , لم يصدق أبي بأن أمي حامل , حتى اتصل بالطبيب, بل وذهب معها في الإعادة ليتأكد بنفسه من الخبر , ولما تأكد من ذلك فرح أيما فرح , حتى تورد وجهه , بل ورقص أيضاً من شدة الفرحة , ومرت الأيام والأسابيع والشهور الأولى للحمل بطيئة جداً علي أبي الذي كان يحسبها باليوم والليلة وبالساعة والثانية , وهو في غاية السعادة والفرح وأمي أيضاً لأنها ستحقق له ما يريد , وما يحلم به ويتمناه , فالابن الثاني في الطريق واسترجعا مقولة الطبيب حين قال لأبي في الحمل الأول .. " ولسوف يعطيك ربك فترضى " لدرجة أن أبي كان يساعد أمي في أعمال المنزل , ولا يرهقها أو يشقّ عليها في شيء حتى جاء اليوم المشؤم , الذي تمنيت إن لو لم آتي إلي هذه الحياة , ذلك اليوم الذي اكتشف فيه أبي بأني بنت , ولستُ ولداً كما كان يتمنى , كاد عقل أبي أن يطير من رأسه ويجن , ولم يصدق من هول الصدمة ما قاله الطبيب له , 
ــ بنوتة حلوة تتربي في عزك إن شاء الله تعالي .. 
ــ ...... 
نظر إلي أمي التي نظرت إلي الأرض, ولم تستطع أن ترفع عيناها في عينيه , وصمت الجميع برهة , ثواني معدودة مرت , كانت عصيبة علي, وأنا أنتظر فرحة أبي بي , أو حتى كلمة شكر لله , أو للطبيب الذي يُتابع الحمل مع أمي , لكن للأسف الشديد لم ينطق بكلمة واحدة وكأنه أصابه الخرس , بل غضب , وكاد أن يتشاجر مع الطبيب , وهو يقول له 
ــ أنت لا تعرف شيء 
وذهب إلي أكثر من طبيب , لعل وعسى واحد غير الأول يؤكد له بأني ولد ولست بنت , ويكذّب ما قاله الطبيب الأول 
ــ " بنوته حلوة تتربي في عزك " 
ولما تأكد أبي بأن ما في بطن أمي بنت , وليست ولد , انقلب حاله رأساً علي عقب , وتحول لدرجة مئة وثمانون درجة , وتغير مع أمي المسكينة التي لا حول لها ولا قوة , فبعد أن كان سعيداً , وفرحاناً , أصبح حزيناً ومهموماً , وبعد أن كان يساعد أمي تركها دون مساعدة , وكان طويل الصمت , قليل الكلام , مغتماً , أو مهموماً على طول الدوام , وصار لا يطيق أحداً إمامه , ولا حتى ذباب وجهه , وراح , يضرب أخماساً في أسداس غير مصدق, وهو يقلب كفيه , غير مستوعب الحدث , وعاد لما كان عليه مع أمي من شجار وخصام والبحث عن زوجة ثانية غير أمي , بحجة واهية وموروث ثقافي مجتمعي عقيم , بالي , يجب أن يتغير , مثل كثير من المفاهيم المنتشرة الخاطئة , الذي أكل عليها الدهر وشرب , فمن غير المعقول في القرن الواحد والعشرين , أن يكون هناك مجتمعات وأناس يفكرون بهذا الفهم العقيم وهذا المنطق السقيم , " يعني إيه البنت غير الولد , لا يا سادة البنت أحياناً تكون أفضل من الولد , فالبنت هي المجتمع كله وليس نصفه كما يقولون , فأن كانت هي نصف المجتمع فقد أنجبت النصف الأخر , فحنانيَّكم أيها السادة ورفقاً بالقوارير , 
ــ عاوز أؤاخي الولد وأنا ولدي لا يعيش وحداني , وأنت السبب ..؟ 
ــ أنا ليس لي ذنب , ولست أنا السبب ..؟!!! 
أنا لا أعيب علي أبي في الزواج من أخرى , ولا أكرهه من أجل ذلك , حاشا وكلا , فهو من حقه شرعاً وعقلاً ومنطقاً بأن يتزوج , وأنا لا أعيب عليه ذلك , ولا أكرهه من أجل ذلك إطلاقاً , أنا أعيب عليه واكرهه فقط من أجل أنه لا يحبني , ويفاضل بيني وبين إخوتي , في المعاملة , وفي كل شيء , وبأنه كان يتمنى أن أكون ولد , ولست بنت , مكسورة الجناح كما يقولون , 
وعادت أمي للبكاء , والنحيب , والعويل , من جديد , وعاد أبي للتهديد , فهي لا حول لها ولا قوة , وكنت كل ليلة أسمع نقارهما , وعراكهما , وأنا في بطن أمي , ولكم تمنيت بأن أموت ليرتاح الجميع مني , أو أن انتحر وأشنق نفسي بالحبل السري , فأبي لا يريدني , وأمي تريد أن تُرضي أبي ولكن حبي لامي جعلني أتشبث بالحياة , وأنا أريد أن أُرضي الاثنين معاً , حنانيك يا الله, وكانت هي إرادة الله, اقتضت حكمته بأن أكون بنتاً لا ولداً , ولما جاء أمي المخاض , وضربها الوجع , وطَلْقُ الولادة , أبي تركها تتألم وحدها , بل لم يذهب معها إلي المشفى , تركها وحدها تعاني الطلق وألم , ووجع الولادة , أنا أحبك يا أمي أكثر من أبي , ليتك تعلمي كم أحبك وكم أنا سعيدة وفخورة بك يا أمي يا حبيبتي , وأتمنى من الله بأن أكون بارةً بك مدي الحياة , أما أبي الله يسامحه , فأنا لا أحبه , لأنه لا يحبني مثلما تحبيني أنت يا أمي , فقط , أحضر لها جدتي المسنة, العجوز المريضة بحجة أنهم لا يدعون الرجال يدخلون علي النساء في عنبر الولادة , ثم تركهما وانصرف , بعدما ترك لهم ما يحتاجون من المال , وعاد مع أخي إلي البيت , حتى اليوم الذي جاء فيه لزيارتنا في المشفى , لم يصعد لنا في العنبر, اكتفى بأن يقبع في فناء المشفى , كانت حالته مكتئبة , ومنظره غريب, لحيته البيضاء طالت, وثيابه كانت غير لائقة , ولا ملائمة لاستقبال أنثى مثلي , حتى كلمة مبروك لأمي لم يقلها, ولا حتى حمداً لله علي السلامة , ولم يحملني بين يديه , ويقبلني كأي أبٍ يحمل ابنته بين يديه , ويقبلها , ويرحب بمقدمها للحياة , حتى أنه تركني مع أمي في بيت جدتي , لتتم أمي فترة النقاهة من النفاس , إلي أن قررت أمي العودة إلي البيت , دون أن يأتي أبي ليأخذنا , ومرت أيام , وشهور وسنوات كثيرة حاولت فيها أن أغير فهم أبي , وعقليته القديمة , وأفكاره المورثة , العقيمة تجاه الأنثى , ولكم حاولت أن أُثبت له بأن البنت مثل الولد , وليست كِمالة عدد , وربما تكون أحياناً , البنت أفضل من الولد بكثير, أحياناً كنت أرى في عينيه الرضى والقبول , والحب ليّ أيضاً , وكان يفرح بي , ساعات , وكنت أشعر بذلك , وأسعد له , وأحياناً أراه يكرهني , فكنت أكرهه أكثر من كرهه لي, حتى جاء يوم وعرفت فيه قيمة أبي , وحبه الشديد لي , ومكانتي عنده , وحبي له الذي كنت دائما أحاول أن أخفيه, وبأن أبي يحبني كثيراً جداً , مثل إخوتي الذكور, بل أكثر منهم جميعاً , وذلك يوم مرضت فيه , قَلِقَ عليّ أكثر من أمي , التي كنت أحبها أكثر منه, وهو الذي حملني علي كتفه وجرى بي , كالمجنون إلي الطبيب , حتى أنه يومها لم يذق الزاد , ولم ينم , برغم أني كنت أعاني من احتقان في اللوز , وكنت أشعر به من حين لأخر , يأتي إلي غرفة نومي ليطمئن علي , وعيناه ملئَ بالدموع , حينها لمت نفسي كثيراً , ووبختها , كيف سمحت لي نفسي بأن أكره أبي , ــ الطيب , الحنون , العطوف ــ كل هذا الكره , وتكررت المواقف والأحداث التي جعلتني أحب أبي , وأغير فكرتي تجاهه , وندمت أشد الندم,على أني كنت أكرهه في يوم من الأيام , وأنا الذي ظننت بأني يئست من أن أكسب قلبه , وحبه لي , ووده , فكرهته من كل قلبي ,... لا , لا يا سادة , أنا ألان أحب أبي حباً شديداً , ولا اكرهه مهما حدث , وأعترف بأني , قد كنت مخطئة حينما فكرت , بأن أكره أبي , في يوم من الأيام ... 
بقلم / على حزين 
12 / 4 / 2018
نشر ‏على‏ ‏9‏ منشورات حديثة في هذه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلانات