2019/02/05

فضلِ من كتَم الغيظَ وهو قادر على تنفيذه بقلم / محمـــــــد الدكــــــــرورى

فضلِ من كتَم الغيظَ وهو قادر على تنفيذه
بقلم / محمـــــــد الدكــــــــرورى 
إن للغضب أضرارًا تَنجُم عنه، كما أن له أسبابًا تُطفئه، من أبرزها كِتمانه وحبسه في النَّفْس وعدم إظهاره؛ ففي ذلك فضل كثير، وخير عميم، دلَّ عليه القرآن والسُّنَّة، ومدافعة الغضب بأن يَملِك نفسه عند الغضب، قال صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديد بالصرعة؛ وإنما الشديد الذي يَملِك نفسَه عند الغضب))، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فما تَعُدون الصرعة فيكم؟))، قلنا: الذي لا يَصرعه الرجال، قال: ((ليس بذلك، ولكنه الذي يَملِك نفسه عند الغضب)) واسمع ما جاء في فضلِ من كتَم الغيظَ وهو قادر على تنفيذه؛ لأنه يكون بذلك صابرًا محتسبًا وأجرُه عند الله تعالى عظيم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كَظَم غيظًا وهو قادر أن يُنفِذه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، حتى يُخيِّره من أي الحور شاء))، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وما من جُرْعة أَحبُّ إلى الله من جرعة غيظٍ يَكظِمها عبدٌ، ما كظَمها عبدٌ لله إلا ملأ الله جوفَه إيمانًا)).
إن هذا الفضل الكثير بكتمان الغضب، قد تلقَّاه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم محبة وتأسيًا؛ جاء رجل إلى سلمان رضي الله عنه فقال: يا أبا عبدالله، أوصني، قال: لا تغضب، قال: أمرتَني ألا أغضب، وإنه ليغشاني ما لا أَملِك؟ قال: فإن غضبتَ فاملِك لسانَك ويدك، قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله - في جامع العلوم والحكم: وملكُ لسانه ويده هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، بأمره لمن غضب أن يجلس ويضطجع، وبأمره له أن يَسكُت، وقال تعالى في صفة المتقين الذين أُعِدت لهم الجنة: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ في صفة المتوكلين: ﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ فالواجب على المسلم أن تكون شهوته مقصورة على طلب ما أباحه الله، وربما تناولها بنيَّة صالحة فأُثيب عليها، وأن يكون غضبه غَيرة على دِينه، وإنكارًا على مَن عصى الله ورسوله، فالذي ينبغي للمسلم أن يتباطأ في غضبه؛ فلا يغضب من أجل الانتقام لنفسه والانتصار لها، بل يَستعمِل الرِّفقَ والحِلم؛ فإن الأمر ما دام في جوف الإنسان لم يَندَم عليه، والذي ينبغي أن يكون له غضب المسلم هو: ما إذا انتهكت محارم الله، أو سُبَّ دِينه، أو خُدِش عِرْضه، وهذه كانت حالة النبي صلى الله عليه وسلم الذي لنا فيه الأسوة الحسنة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يَنتقِم لنفسه، ولكن إذا انتهكت حُرمات الله لم يَقُم لغضبه شيءٌ، ولم يضرب بيده خادمًا ولا امرأة، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وخدَمَه أنسٌ عشر سنين فما قال له: أفٍّ قط، ولا قال لشيء فعَله: لمَ فعلتَ كذا؟ ولا لشيء لم يفعلْه: ألا فعلتَ كذا؟ وفي رواية: أنه كان إذا لامَه بعضُ أهله، قال صلى الله عليه وسلم: ((دَعُوه؛ فلو قُضي شيء كان)) وسُئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلِق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: "كان خُلُقه القرآن"؛ يعني كان يتأدَّب بآدابه، ويتخلَّق بأخلاقه؛ فما مدحه القرآن كان فيه رضاه، وما ذمَّه القرآن كان فيه سَخَطه، فكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى أو سمِع ما يَكرَهه اللهُ، غضِب لذلك، وقال فيه ولم يسكت، وقد دخل بيت عائشة رضي الله عنها فرأى سترًا فيه تصاوير، فتلوَّن وجهه وهتَكَه، وقال: ((إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يُصوِّرون الصور))، ولما شُكي إليه الإمام يُطيل الصلاةَ بالناس حتى يتأخَّر بعضهم عن الصلاة معه، غضب واشتد غضبه، ووعظ الناس وأمر بالتخفيف، ولما رأى النخامة في قِبْلَةِ المسجد، تغيَّظ وحكَّها، وقال: ((إن أحدكم إذا كان في الصلاة، فإن الله حيال وجهه، فلا يتنخَّمن حيالَ وجهه في الصلاة))، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ((أسألك كلمةَ الحق في الغضب والرضا))، وهذا عزيز جدًّا، وهو أن الإنسان لا يقول سوى الحق، سواء غضِب أو رضي؛ فإن أكثر الناس إذا غضب لا يتوقَّف فيما يقول، وجاء في الحديث: ((ثلاثة من أخلاق الإيمان: مَن إذا غضِب لم يُدخِله غضبه في باطل، ومَن إذا رضي لم يُخرِجه رضاه من حق، ومن إذا قَدَر لم يتعاطَ ما ليس له)) وحتى إذا رأى ما يُسخِط اللهَ وأغضبه ذلك، فلا يتعاطى ما يُخرِجُه عن طوره وحدِّه، وقد أخبَر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجلين ممن كان قبلَنا كان أحدهما عابدًا، وكان الآخر مُسرِفًا على نفسه، وكان العابد يَعِظه فلا ينتهي، فرآه يومًا على ذنب استعظَمه، فقال: والله لا يغفر الله لك، فغفر الله للمُذنِب، وأحبط عملَ العابد، وقال أبو هريرة رضي الله عنه - يُحذِّر الناس أن يقولوا مِثل هذه الكلمة في غضب -: "والذي نفسي بيده، لتكلَّمَ بكلمة أوبقتْ دنياه وآخِرتَه"، فهذا غضِب لله، ثم تكلَّم في حال غضبه لنفسه ومتابعة هواه بما لا يجوز، وحكَم على الله بما لا يعلم؛ فأحبَط الله عمله، فكيف بمن تكلَّم في غضبه لنفسه ومتابَعة هواه بما لا يجوز؟ ولربما إذا غضِب الإنسان دعا على نفسه وأهله وماله، وهذا مما لا يجوز أيضًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلانات