2015/11/28

خدّام المضيفة --- بقلم / ا . محمد شلبى أمين

خدّام المضيفة
محمد شلبى أمين
لم يعبأ يوما بما يدور حوله ،لم يكن ممن يعمل لهم حساب بين أبناء العائلة ،ذات صباح سأل الأستاذ الأطفال سؤالا لم يجب عليه سواه،أجاب بطلاقته المعهودة وبساطته المطبوعة فيه ، دون تكلف أوإرهاق أواهتمام ، مما أعطى انطباعا لدى الأستاذ أن هذا الطفل ليس عاديا ،ربما يكون من المهم رعايته ،انطلق نحوه مسرعا منشرحا ،باشا ،رغم أن هذا بعيدا عن طبيعته الجادة جدا ،ضمه إلى صدره ،أجلسه إلى جواره ،اكتشف وسامته ،قال بعفوية : انت ولد أمور وشاطر ،تحركت ألسنة الأطفال بالكلمة لأول مرة فى حياتهم ،سرعان ما أصبحت لصيقة الألسن الخضراء،التى صارت تتغنى بالكلمة فى النداء عليه ،بينما أصبح طلب صحبته شرف لكل منهم ، امتد التعلق إلى الأمهات ..حيث أصبحن يحببن أطفالهن فى صحبته، يرغبنهم فى القرب منه علهم يكونوا مثله ،أو محاولة اكتساب بعض خصاله الطيبة ،خاصة أنه من عائلة تلقى احترامهم جميعا .
هذا على المستوى الخارجى ،مع أول خطوة داخل بيت العائلة تتوه معالمه ،يتوه معها مااختص به من ذكاء وسرعة بديهة وجدية وحب التعلم ووسامة الأطفال،فيصير فردا من أفراد هذا البيت المتسع الجدران ،الملىء بكل ألوان وأجناس البشر، المتعدد الثقافات والأفكار، مجهول الترتيب بينهم ،ربما لايتذكرون اسمه جيدا ،ولا متى ولد ،هو طفل ضمن أملاك العائلة ،مثله مثل أى شىء يتحكم فيه كبيرها..الجد ..الذى يجلس دائما فى مكانه الخاص.. ليقرأ القرآن الذى يحفظه عن ظهر قلب دون النظر فى المصحف إلا إذا اختلطت عليه آيتان أو تشكيل ما بصوت يسمعه كل من فى البيت ، وربما رتل مجودا بالقراءات العشر،أوعقد مجلسا لحل مشكلة من مشاكل القرية ،أو لمناقشة قضية من قضايا المجتمع مع كبار رجاله ،كان المقرب منه من يحفظ القرآن جيدا من أبنائه ليراجع عليه.
حدد مبكرا هدف الوصول إلى الجد فانقطع لحفظ القرآن جيدا دون تكليف ليكون مقربا من هذا القائد ،ويصبح وجوده مؤكدافى محيط العائلة ،يكسر تعنتهم فى مناداته دون اسمه،كل ما يتمناه أن ينادونه باسمه.
عاد من المدرسة فى زفة طفولية حتى الباب ،انصرفوا، دلف إلى الداخل لم يعبأبه أحد،ولم يسأله أحدهم ..لماذا تأخرعن موعد الخروج،كان يتمنى أن يجد أمه فى انتظاره كسرا لقوانين العائلة، لكن هذا لم يحدث ،وضع قطعة القماش التى خاطتها له الجدة ليضع فيها الكتب وأدوات الدراسة..بجوار حائط قديم فى مقدمة البيت ،جلس مسندا ظهره..متذكرا بعض الآيات التى حفظها فى كتّاب الشيخة نفيسة ،أخذ يردد بصوت مسموع مغلف بعذوبة ممزوجة بالبراءة ،
بسم الله الرحمن الرحيم " والعصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصو بالحق وتواصوبالصبر"،
تزامن هذا مع مرور الجد إلى مجلسه، أبطأ الخطى ، توقف منصتا ، يصحح له مخارج الحروف التى تعثر فيها ،تو قفت منظومة العمل فى الدار ترك الكل عملهم ،اقتربوا من المشهد الفريد بين الجد والحفيد فى تناقض لا يتفق وأبجديات هذا العصر ،ضربا بالبروتوكول العائلى ..انحنى عليه ..قبل رأسه ،ضمه إلى صدره ،فى مشهد لم يحدث قط فى تاريخ العائلة وكل العائلات المعاصرة ،قبض على يده طالبا صحبته إلى مجلسه ،ما أن استقر فى جلسته حتى أعلن أنه من اليوم خدّام المضيفة ،هذا شرف خاص جدا لايستطيع الحصول عليه إلا من صنع شيئا مهما للكيان العائلى المستقل ،هذا يعنى أن يكون فى شرف خدمة الجد وضيوفه ،يستقبلهم ويجلسهم فى مجلس العائلة ويقدم لهم واجبات الضيافة ،يحظى بقربه من جده أطول وقت ممكن ،لايفارقه إلا عند النوم ،كما يحظى بحماية أبدية لايستطيع أن يقربه كبير أو صغير ،يعفى من العمل فى الأرض ..وتحت أقدام البهائم ،والقهر فى الأجران وقت الظهيرة،يتفرغ للجد والتعليم مقرونا بحفظ القرآن ،أصبح أصغرخدّام لمضيفة عائلة بشار حديث العائلة والقرية بأكملها ..لأن هذه المضيفة يرتادها كل مثقفوا القرية والقرى المجاورة ومتعلميها ،كذلك عمداء العائلات والقرى ،حيث تكون يوميا ساحة نزال فقهى أو قضاء شرعى ..تشهد القرية فيها الحكم ثوابا أو عقابا،وربما ينفذ الحكم ، وقد تتحول إلى مجلس لتعليم صحيح الدين ،أو كتّاب لتحفيظ ومراجعة القرآن وأحكامه التجويدية ،من يخد م هذه المضيفة ..يحظى بالقبول لدى الكل بمميزاته الخاصة التى أهلته لهذه المكانة.
مرت السنون ،مات الجد ،ماتت معه المضيفة ،تفككت العائلة إلى أسر صغيرة ، تصارع الحياة من أجل البقاء .
نزح خدّام المضيفة إلى العاصمة، صارهذا الوزير الذى قدم ليغير خريطة الثقافة فى أمة أمسى الشتات عنوانها،وسارسعارالفرقة ينهش أحشاءها،تلطخت الأيادى بالدماء بفعل خلافات افترضتها قوى الاحتلال الذى ركع ذليلا فى فى معركة المنصورة،وبورسعيد ،وسيناء، بثتها عقول مسمومة وقلوب تكره وحدتنا .
عاد ..حيث كانت المضيفة ،جلس حيث كان الجد،أعلن تحديا ..
إن لم الشمل وتوحيد الصف وحقن الدماء .. والنهوض ..يبدأ من هنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلانات