2017/03/16

مقالتي ( الابداع / تشفير النص ومفاتيح المتلقي ) بقلم الشاعر الأديب / ضمد كاظم الوسمي



مقالتي ( الابداع / تشفير النص ومفاتيح المتلقي ) 
المنشورة في مجلة المرايا للشعر والادب العدد 7 شباط 2017
ضمد كاظم الوسمي
الإبداع قد يتماهى مع الحياة .. لكنه يؤسس دائماً للجزء البهيج فيها .. ويبرز مفاتنها .. ويوشيها بأنواع الحلي وأشكال المصوغات .. لأنه أحد أعظم وسائل الخلاص من واقع مكفهر بائس .. فهو يشظي مجسات الإحساس في تلافيف الواقع ومفرداته .. لأن الأدب / الإبداع ينشط عند مفترق طرق الناس وواقعهم .. مفترق طرق الناس وذواتهم .. بل يلعب دور رجل المرور لتنظيم العلاقة وترهيفها بين الذات والموضوع بين الإنسان والطبيعة .
يخترق جسد النص قطاران .. قطار المباني ، وقطار المعاني . فالأول بيّن معلوم يسير بهدوئه المعهود ويسلك سكته المعتادة . وإن فرض عليه الإبداع الكثير من التأنق البلاغي .. والتأثيث اللفظي المنمق .. والترشيق الجملي الموحي .. والرهافة العبارية الوامضة .. من غير تكلف مخل ولا تصنع ممل .. كلمة تدب دبيب النمل بإغضاء .. لكنها عبارة تنطلق كالسهم خفة لتتشظى في مدارك المتلقي .. والأمر يتعلق بعجينة ذاكرته فيما إذا كانت طرية إستيعابية تضيّف الوافد الجديد وتحتفي به وتغتني منه .. عندئذٍ تكون تلك العجينة قابلة للإختمار .. وله حال ذاك أن يشوي بقدر جوعه خبزاً نضيجاً لذة للآكلين !! . 
أما إذا كانت صلدة متصلبة ترتد عنها أصابع الحضور ولا تعتني إلا بالوحشة والنفور ، فالأمر يومئذٍ تمحل في الفقوه .. ونواح عند حائط مبكى النص .. محطاته مثابات لا يلجها الاّ عشاق الجسد اللغوي من المتلقين الذين يلتحفون بوحه الوسنان .. ولا يفيقون من خمرة سيولة الكلمات .. بإعتبارها لبنات الإبداع .. وبصر الإيقاع .. يمتطون عرباته .. وهي درجات .. ولكل واحدة مايتاح من القدرات .. ولكل متلق إمكانية التسلق بحسب الملكة والمران .
الإيغال بالعقلانية قد يشل الإبداع .. وربما يميت دوره إذ برغم ان ميدان الأدب هو الحياة .. لكنه ينهل من الخيال .. لكي يعيد تكوين الواقع الذي لم يتحقق بعد !
يجب أن يعيش الأدب في الحياة .. لكن بعيداً عن إلتزاماتها وإشتراطاتها .. لأن لعبته أن يخترق القيم والمفاهيم .. فتنزف ذواتنا ما يعتمل في دواخلها من إرهاصات وأفكار لتتزاوج مع تجليات الطبيعة أملاً في ولادة واقع جديد وبقيم ومفاهيم جديدة مفعمة بحب الخير .. وهكذا يكون الأدب فعل حياة وتغييرلأن ( المفاهيم الفكرية مصنعة ، المدركات الحسية ضرورات ) . فالأدب قد يكون حالة حضور أو حالة تجلي .. عندما يتحد الحقيقي والمتخيل / الرمزي / الأسراري / الأسطوري .. وهي حالة من الإدراك الحسي .. غير عصية على المبدع المرهف الحس .. الذي قد يقصر تفكيره على الكون وحده ، لكن التفكير فيما وراء الكون هو الذي يسجر الخيال ويؤسس للجمال النهائي المودع في قطار المعاني المعلق في الفضاء والمأخوذ بالإتجاهات ، والذي يسافر في كل الدنيا .. ويحاكي براق السماء . يهزأ بالموت ويجوب فيافي الفناء .. لونه الفاقع يستهوي المتلقي في عملية بصرية قرائية تمجد الحرف وتعلي من شأن الكلمة .. وما تنطوي عليه من صور جمالية آسرة .. لكنها تعاني من شظف الحركة .. وتتضور وهناً إذ تحاول إجراء زحزحة لحياة مكتظة بالقنوط .. مثقلة بالبؤس .. غير أن لونه النبعي .. الذي هو مبتغى عليّة المتلقين .. وقبلة كبار الناقدين .. ومستودع أسرار الكاتبين .. ليس الوصول الى رؤى معانيه ميسورة لكل متلق .. بل تستدعي ملكة إلهامية وخبرة كفائية في عملية بصيرية تأويليه يذكيها المخيال ويكحل عيونها الحدس والشهود الصوفي يلهمها تجربة ذاتية غنوصية .. تمد المتلقي بمفاتيح شفرات الجسد النصي وطلاسمه الهيلامية !! للوصول الى مايراه حقيقة المعنى المبثوثة في علائق المعنى .. وله أن يعتبر ذلك خلقاً إبداعياً يختص وحده بحقوق إذاعته .. أو يستمتع بكنوز فتح المعنى .. وله أن يفتح ذلك المعنى الى أقصاه .. شريطة أن يستخدم المفتاح أو المفاتيح وفق لعبة المعنى وأصولها بعيداً عن تزمت التأصيل وأسفاف التخليق .. عندها يمكنه أن يستشف رموز التشفير الكامنة في جسد النص وروحه ، والتي أودعها المؤلف فيهما بعد أن يئس من مناضلة الواقع المرير ومقاضاة الحياة البائسة إلا بالجنوح الى مواقعتهما بالشفرة والرمز والخيال !! فالإبداع الأدبي لا يبنى على الواقع .. بقدرما يشاد على تصورات تؤسس لواقع جديد من خلال الإستعارة والرمز والإيحاء مطعمة بالخيال الذي يستنفد الواقع القديم .
فالمبدعون هم عقل الحياة .. ووعي الروح .. وشغف الإحساس .. نصوصهم كلمات مسطورة .. أباضتها ألفاظهم النازفة من مآقي أفكارهم التي طبخت في مدركات وعيهم .. لكنها تمتد بجذورها الضاربة في لاوعي الحياة ! .. إنهم يقاتلون ذواتهم من أجل الناس .. ويقيمون صروحاً من الإبداع تنبض .. لكنها غنيّة عن المعنى .. المعنى القار في النص .. بيد أنها تدفع الحياة الى حافة المعنى .. وتخوم الحقيقة .. بل الى فتح المعنى الى اقصاه ! .. المعنى الموجود في العالم بما يتضمنه من رؤى ذاتية وتعقيد معرفي وإجتماعي وسياسي وتمظهر طبيعي .. لأن الواقع حاله فجة وممجوجة نقاضيها بالخيال الذي أنتج الأسطورة .. التي تستشرف المستحيل .. وتعيد تشكيل العالم أملاً في ترقيق وجه الحياة القاطب وتدرير ضرع الواقع الضامر .
فالمبدع يمارس سلطته على الطبيعة من خلال الخيال ، وغيره يمارس ذات السلطة من خلا الآلة .. فالخيال هو الحاضنة المتفردة للعبقرية .. التي ديدنها تحرير العقل الزاخر بالتجريد .. وإعادة تشكيل الواقع الموبوء بالإبتذال .
ضمد كاظم الوسمي 
العراق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلانات