2017/01/31

شرح قصيدة الزِّيجُ للشاعرة والوشّاحة د. ريم هباش بقلمي أنا أبو رُوَيم

شرح قصيدة
الزِّيجُ
للشاعرة والوشّاحة د. ريم هباش
بقلمي أنا أبو رُوَيم
سبق أن قدَّمنا لمفهوم المدرسة الرمزية في الشِّعْرِ قديمه وحديثه، ولمراميها وأهدافها وخصائصها المميزة لها، وذلك أثناء شرحنا لقصيدة وفاق الحب لذات الشاعرة والوشّاحة د. ريم هباش، بما يُغني عن الإعادة والتَّكرار هنا، فندخل في المقصود دون تقديم، ونلتزم شرحًا ليس طويلً مملًّا مُوغلًا في التفاصيل التي تخص أهلَ الفن المُكَنَّى به هنا، وليس قصيرًا مخلًّا بأغراض القصيدة ومراميها التي هي مُرادُ الشاعرة وهَدَفُها، فنقول مستعينين بالله وحده:
عُلُومُكَ يَا هَذَا أَحَافِيرُ رَاهِبٍ
غَزَا عَالَمَ الأَرْوَاحِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةِ
(عُلُومُكَ يَا هَذَا) مبتدأ مضاف إلى ضمير المخاطَبِ على سبيل الاستصحاب والاستحضار له، ولما كانت ا لشاعرةُ مُرِيدةً للتعمية والتغمية عن اسمه، قالت: يا هذا، شأنُ اللغة في التعمية والتغمية عن المُعيَّنِ لأغراضٍ كثيرةٍ محلُّها علوم البلاغة الثلاثةُ: البيان، المعاني، البديع، وذلك كقوله جل شأنه في التعمية والتغمية عن اسم امرأة العزيز بالموصول: {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه} [يوسف: 23]، حيث لم يقل: وراودته فلانةُ مُصَرِّحًا باسمِها. (أَحَافِيرُ) جمع أحفور، وهي هنا كناية عن الكتابة في الأشياء الصُّلبةِ دون غيرها، ولهذا معانٍ مُرادةٌ، منها: العُمق، والدقة، والبقاء، وهي إشارةٌ من الشاعرةِ إلى أن علومَ محبوبها عميقة ودقيقة وباقٍ نفعُها ومستمر، (رَاهِبٍ) لما كان الراهب الأوَّلُ مُشْتَهِرًا بالتأملات الدافعة والمُحفِّزَةِ على الإيمان العميق الواثق بالله تعالى، أضافت إليه الأحافيرَ لإفادة أن علوم المخاطَبِ -وهو المحبوب- نابعة من هذا الإيمان العميق والواثق، وليست هي غُزَعْبِيلاتٍ ولا تُرَّهاتٍ (غَزَا) دخل بقوة وقهرٍ (عَالَمَ الأَرْوَاحِ) التي هي جنودٌ مجندة ومراتِبُ، وغَزْوُه لها معناه: حصوله على وُدِّها والتقرب إليها بسببٍ من أخلاقه ومبادئه وعلومه ومعارفه (مِنْ كُلِّ فِرْقَةِ) أي: حالة كون هذه الأرواح من كل المراتب المختلفة، وهذا هو معنى الدخول بقوة وبقهرٍ كما سبق أن شرحناه.
وَأَمْسَتْ رُقُومُ الرِّيمِ فِي الزِّيجِ عِنْدَهُمْ
هِيَ السِّرَّ فِي التَّأْثِيرِ فِي قَوْلِ حِكْمَةِ
(وَأَمْسَتْ رُقُومُ الرِّيمِ) وأصبحت نُقُوش الرِّيم أو النِّيم الذي هو حسابٌ معروفٌ عند أهله، تحكيه هذه الأبياتُ من الطويل:
عَلَيْكَ بِحِفْظِ الرِّيمِ تَظْفَرُ بِالمُنَى
وَتَبْلُغُ مَا تَهْوَى وَمَا أَنْتَ طَالِبُ
حِسَابٌ بِطَرْحِ التِّسْعِ يَظْهَرُ سِرُّهُ
بِأَسْمَاءِ أَمْلَاكٍ عَلَيْهِ تَجَارِبُ
فَفِي الزَّوْجِ وَالإِفْرَادِ يَسْمُو أَقَلُّهَا
وَأَكْثَرُهَا عِنْدَ التَّخَالُفِ غَالِبُ
وَيَغْلِبُ مَطْلُوبٌ إِذَا الزَّوْجُ يَسْتَوِي
وَعِنْدَ اسْتِوَاءِ الفَرْدِ يَغْلِبُ طَالِبُ
فهو ميزان للغالب والمغلوب، والطالب والمطلوب، واستخدام الشاعرة له ليس الغرضُ منه الشرحَ والإيضاح لهذا العِلْم، ولا التعرُّضَ لصحته من فساده، وإنما هو كناية عن مطلق الخفاء والدقة والتعمق في علوم المشار إليه، والاستعارات والكنايات المرادة منه.
وجديرٌ بالذكر أن أعداد الأبجدية تختلف في حساب الرِّيم أو النِّيم عنها في حساب الجُمَّلِ المعروف عند أهله، وكذلك ترتيبها، ثم يختلف بعد ذلك بالنظر إليه عند المشارقة والمغاربة، على تفصيل ليس مقصودًا للشاعرة هنا، وإنما مقصودها كما -سبق أن قررنا- هو مطلق التعبير عن التوسع والاستبحار في العلوم والمعارف المختلفة، وأخذها الاستعارات والكنايات من هذا الفن بما يتناسب مع مراميها ومقاصدها من الشعر، فأتت بهذا الفن كنايةً عن ذلك كله. (فِي الزِّيجِ) الذي هو علم تُستَخْرَجُ فيه النتائجُ المجهولةُ من المقدمات المعلومةِ، وهو مجرد حسابٍ لا يدخله شيءٌ آخَرُ، وبقدر الدقة في المقدمات تكون الدقة في النتائج أيضًا، وقد أشار إلى هذا النوع من الحساب ابن خلدون في مقدمته بما يغني عن الإطالة فيه هنا (عِنْدَهُمْ) أي: عند أهله المهتمين به، والعارفين له، وهو قَيْدٌ معناه أنها علوم فِئويةٌ وليست عامةً يَعْرِفُها كلُّ أحدٍ (هِيَ) أي: رقوم الرِّيم أو النِّيم (السِّرَّ فِي التَّأْثِيرِ) طَرْدًا وعَكْسًا، أوطَرْدًا وجَلْبًا، وهذه كناية عن القوة في الدفع والجلب بالحجة والبرهان (فِي قَوْلِ حِكْمَةِ) أي: في قول الحكماء والعارفين لها.
وَعِنْدَ الْتِقَاطِ الحَرْفِ مَرْغُوبُ طَالِبٍ
لَهُ فِي اجْتِلَابِ الرُّوحِ أَسْرَارُ زِيجَةِ
(وَعِنْدَ الْتِقَاطِ الحَرْفِ) أي: وعند التقاطِكَ للحرف من حروف الأبجدية لا الألفبائية، وذلك لاستخراج المجهولِ في قلب المحبوبِ من المعلوم عندك عنه (مَرْغُوبُ طَالِبٍ) أي: ما يرغب فيه الطالب الذي هو هنا الشاعرة، (لَهُ) أي: لهذا الضَّرْبِ من الفن (فِي اجْتِلَابِ الرُّوحِ) أي: الأرواح البشرية والتي منها رُوح المحبوب (أَسْرَارُ زِيجَةِ) معرفة الأسرار العميقة للمحبوب كما تُعرَفُ النتائجُ المجهولة والأسرارُ المخبوءة من حساب الزِّيج. فالبيت كناية عن معرفة الشاعرة للمحبوب معرفةً تجعلها مُطِّلِعةً على خباياه وأسراره التي لا يعرفها عنه غيرُها من أقرب الناس إليه، كشأن العارف بهذه العلوم المستأثر بها دون غيره من بني جنسه.
غَدَا الحَرْفُ مَنْقُوشًا وَفِي الرَّقِّ سِرُّهُ
لَهُ الجَلْبُ وَالطَّرْدُ اللَّذَانِ بِحُجَّةِ
(غَدَا الحَرْفُ مَنْقُوشًا) أي: صار الحبُّ منقوشا، فهي استعارات وكنايات كما سبق أن أشرنا، فكُنْ من ذلك على ذُكْرٍ أبدًا، (وَفِي الرَّقِّ سِرُّهُ) أي: وفي قلب المحبوب تأثيره، أي: تأثير نقشي أنا فيه (لَهُ الجَلْبُ) أي: الإغراء والتقديم والتقريب له مِنِّي كما في هذا الفن (وَالطَّرْدُ) أي: التنفير والإبعاد له عَنِّي، وكلاهما (اللَّذَانِ) هما الطرد والإبعاد، هما (بِحُجَّةِ) –وحذف صدر الصلة هنا ضرورة، والأصل: اللذان هما بحجة- أي: بدليلٍ وبُرهان وسُلطان مبينٍ كما هو الشأن في هذا الفن عند أهله العارفين له.
أُمُورٌ يَحَارُ المَرْءُ فِيهَا إِذَا رَأَى
مِنَ الزَّوْجِ وَالإِفْرَادِ كُلَّ عَجِيبَةِ
وهذه الأحوال في الجلب والطرد مِنِّي (أُمُورٌ يَحَارُ المَرْءُ) الناظر (فِيهَا) خاصةً (إِذَا) هو (رَأَى مِنَ الزَّوْجِ) وهو هنا كناية عن الأُنثى التي هي الشاعرة، إذ في هذه العلوم يجعلون الزوج للأُنثى والفرد للذَّكَرِ (وَالإِفْرَادِ) وهو هنا كناية عن الذَّكَرِ، وهو هنا المحبوب (كُلَّ عَجِيبَةِ) من التقديم والتقريب تارةً، والتأخير والإبعاد تارةً أُخرى، فهما دائمًا في شدٍّ وجَذْبٍ، واختلافٍ ووِفاقٍ، وهكذا في بقية النقائض والتوافقات، شأنُهما في ذلك شأنُ الزِّيج تمامًا بتمامٍ كما هو معروفٌ عند أهله.
وَهَذَا بِطَمْسِ الحَرْفِ مِنْ بَيْتِ نَفْسِهِ
إِلَى السَّابِعِ المَطْلُوبِ فِي قَوْلِ جِلَّةِ
(وَهَذَا) المطلوب والمراد لي أنا إنما يكون (بِطَمْسِ الحَرْفِ مِنْ بَيْتِ نَفْسِهِ) أي: بطمس الحرف الواقع في بيت النفس الذي هو قلب المحبوب، وهو البيت الأول من الزِّيج، وهذا كناية عن مفارقة المحبوب لامرأةٍ أُخْرَى يُحِبُّها، فعبَّرَت بالطمس من علم الزِّيج عن المفارقة، وببيت النفس منه عن قلب المحبوب نفسِه، وإذا هو فارقها ساعيًا (إِلَى) البيت (السَّابِعِ) الذي هو بيت الحُبِّ (المَطْلُوبِ) وهو البيت المُعبَّرُ والمُكنًّى به عن الشاعرة، يكون بذلك قد فَعَلَ ما يُوافق الحقيقة الحسابيةَ من علم الزِّيج (فِي قَوْلِ جِلَّةِ) في قول الأجلَّاء والعارفين بهذه الفنون والعلوم، ويكون فِعْلُهُ محمودًا ومَمْدُوحًا.
وَيَكْفِيكَ طَرْحٌ لِلْأُسُوسِ بِمَرَّةٍ
إِذَا رُمْتَ تَعْمِيرًا خَلَا مِنْ مَذَمَّةِ
(وَيَكْفِيكَ) للوصول إليَّ والتقربِ مِنِّي أيها المحبوب (طَرْحٌ) أي: إسقاطُكَ (لِلأُسُوسِ) التي هي ميزان التنزيل في الزِّيج، وهي هنا كناية عن الوساوس والأفكار الرديئة عند المحبوب (بِمَرَّةٍ) أي: مرةً واحدةً بحيث لا يبقى في ذهنك منها شيءٌ (إِذَا رُمْتَ) أي: إذا طَلَبْتَ أيها المحبوب والمرغوب عندي أيضًا (تَعْمِيرًا) تزويجًا بيننا ووفاقًا (خَلَا مِنْ مَذَمَّةِ) أي: خاليًا من المذمة والغمز واللمز من الآخرين، كما هو الشأن في الزِّيج بحيث إذا أسقطتَ الأسوسَ استقام لك الحساب وكان مَمْدُوحًا، وإذ أنت لم تُسقِطْها اضطرب حسابُك وذَمَّك بذلك الحكماءُ العارفون له.
وَجَانِبْ بُيُوتَ الطَّرْدِ فِي سَرْدِكَ اسْمَهَا
إِذِ الطَّرْدُ مَوْكُولٌ بِإِحْدَاثِ فِتْنَةِ
(وَجَانِبْ) أيها المحبوب والمرغوب عندي (بُيُوتَ الطَّرْدِ) أي: الأمورَ الذي تكون سببًا في طردِكَ وإبعادِكَ عنِّي، وذلك حين تكون داخلًا (فِي سَرْدِكَ اسْمَهَا) أي: في ذكرك لاسم محبوبتك التي هي أنا، (إِذِ الطَّرْدُ) الناتجُ عن تصريحك بالاسم أمامَ مَنْ تُحِبُّها خاصةً، ثم أمامَ الناسِ عامة قبل انعقادِ شيءٍ بيننا يُعبأ به (مَوْكُولٌ) أي: مُختَصٌّ (بِإِحْدَاثِ فِتْنَةِ) بينك وبينها، ثم بينك وبيني أنا أيضًا، كما هو الشأن في حساب الزِّيج المعروفِ عند أهله، بحيث إذا لم يجانب الحاسِبُ بيوتَ الطرد فيه، فَسَدَ حسابُهُ، واحتاج إلى إعادته بما في ذلك من العَناء والتَّعَب والإرهاق، ويَحْدُثُ هذا كثيرًا عندما يكون الزِّيج في حاجة إلى جَبْرٍ من كَسْرٍ وقع فيه كما هو الشأن في حالتنا من الكسور النفسية والأزمات الاجتماعية وغيرها.
وَهَبْكَ نَسِيتَ الجَبْرَ فِي السَّرْدِ فَلْتَكُنْ
خَبِيرًا بِكَسْرِ الوَفْقِ فِي كُلِّ نَقْلَةِ
(وَهَبْكَ) أيها المحبوب والمرغوب عندي، أي: وافرض جَدَلًا أنك (نَسِيتَ الجَبْرَ) الذي هو الاحتفاظ بالاسم بينك وبين نفسك فذكرتَهُ أمامها أو أمام غيرها (فِي السَّرْدِ) في أثناء كلامك معها أو مع غيرها (فَلْتَكُنْ خَبِيرًا بِكَسْرِ) أي: بموضع الخَلَلِ من (الوَفْقِ) أي: من الكلام الموافق والمُتَّزِنِ (فِي كُلِّ نَقْلَةِ) أي: في كل كلمة تقولها، كالشأن في حساب الأوفاق حينما تنتقل فيها من بيت إلى آخَرَ.
وَيَلْزَمُكَ التَّحْبِيرُ فِي رَسْمِ لَيْلَةٍ
بِهَا البَدْرُ وَحْشِيٌّ كَتَارِكِ مُتْعَةِ
(وَيَلْزَمُكَ) للوصول إلى جَبْرِ ما وقعتَ فيه من أخطاءٍ معي بسببِ ذلك (التَّحْبِيرُ) التجويد والتحسين والاستعداد التام (فِي رَسْمِ لَيْلَةٍ) في التحضير للالتقاء معي في ليلةٍ (بِهَا البَدْرُ) وهو هنا كناية هنا عن المحبوب نفسِهِ (وَحْشِيٌّ) أي: خالٍ من الهموم والأفكار الردئية كما يكون القمرُ في العلم بالوَفْقِ وَحْشِيًّا، أي: غيرَ مُتَّصَلٍ بكوكبٍ آخَرَ، لا من تسديس، ولا من تثليث، ولا من تربيع، ولا من مُقابلة، ولا من مُقارنة، إلى آخرِ ما هو معروفٌ عند أهل هذا الفن، فتكون بذلك (كَتَارِكِ مُتْعَةِ) أي: كتارك متعةٍ بغيري، بحيث تكون مُتْعَتُكَ بي وَحْدِي.
وَإِيَّاكَ فِي الإِشْعَالِ أَنْ تَتْرُكَ الدُّمَى
تُلَامِسُ فِي التَّنُّورِ كُلَّ فَتِيلَةِ
(وَإِيَّاكَ) أيها المحبوب (فِي الإِشْعَالِ) في أثناء اللقاء بيننا المشتعل كاشتعال التَّنُّور (أَنْ تَتْرُكَ الدُّمَى) أي: مشاعِرَكَ دُون قَيْدٍ أو ضابط، بحيث (تُلَامِسُ فِي التَّنُّورِ) أي: في وقت اللقاء المحموم بيننا وكأنه في تَنُّورٍ مشتعلٍ (كُلَّ فَتِيلَةِ) أي: كلَّ ما هو قابلٌ للاشتعال من مشاعرنا المكبوتة؛ فيقع بذلك ما لا تحمد عُقباه، كما هو الشأن في الحريق الذي يقوم به الحكماءُ لإسقاط تأثيرٍ مُعيَّنٍ عن شخصٍ معيَّنٍ، فإنهم إِنْ قرَّبُوا الدُّمى الحقيقيةَ أثناء الإشعال في التنور من النار احترقت، وكان في ذلك فَسادُ عَمَلِهِم وسَعْيِهِم.
وَلَا تُبْدِلِ العُودَ المُعَطَّرَ غَيْرَهُ
يُنَاجِي مِنَ الأَرْوَاحِ أَصْحَابَ فُرْقَةِ؟!
(وَلَا تُبْدِلِ العُودَ المُعَطَّرَ) أي: بأخلاقك ومبادئك الحميدة أثناء لِقائِنا، وشبَّهَتْها بالعود المعطَّرِ، وهو نوع من الأخشاب يُستخدم لأغراض التعطير والتبخير، وثَمَنُ هذا النوع من الأخشاب باهِظ جدًّا، وذلك لنفاسته (غَيْرَهُ) أي: غيرَهُ من الأخلاق المذمومة والأفكار الردئية، فإنك إِنْ فعلتَ ذلك، صار العود الذي هو كناية عن الأخلاق الحميدة (يُنَاجِي مِنَ الأَرْوَاحِ أَصْحَابَ فُرْقَةِ) أي: يناجي المشاعرَ الجياشة بداخلنا والتي تدعو إلى ما يجلِبُ الفُرقةَ والطرد والإبعاد، وهذا كناية عن إرادة العِفَّةِ داخلًا وخارجًا، والبعدِ عمَّا يَشِينها، كما هو الشأن عند الحكماء حين يستخدمون هذا النوع من البَخُور لمناجاة الأرواح الطاهرة الذكية، فإن هم أبدلوا به غيرَهُ من الأبخرة الرديئة ناجَوُا الأرواحَ الخبيثة التي تدعو إلى الفُرقة والشتات.
وَإِلَّا فَقَدْتَ الحُكْمَ يَا صَاحِ مِنْ غَدٍ
وَعُذِّرْتَ بِالأَصْوَاتِ مِنْ كُلِّ زَجْرَةِ
(وَإِلَّا) أي: وإن لم تلتزم بذلك (فَقَدْتَ الحُكْمَ) أي: فقدتَ الحكمَ عليَّ والتقرُّبَ مِنِّي (يَا صَاحِبِي مِنْ غَدٍ) أي: من فَوْرِكَ، وليس هذا فحسبُ، بل (وَعُذِّرْتَ) أيضًا (بِالأَصْوَاتِ) أي: بالأوصاف التي سأَصِمُكَ بها حينئذٍ، والشتائمِ التي ستلحقك مِنِّي حينئذٍ، وستكون هذه الأوصافُ وتلك الشتائِمُ (مِنْ كُلِّ زَجْرَةِ) من كل ما هو زاجِرٌ من الأوصاف القبيحة، والأخلاق السيئة، والشتائمِ البذيئة، جَرَّاءَ ما فعلتَ واستحللتَ.
وَهَاجَتْ بِكَ الأَصْدَاغُ مِنْ وَقْعِ ضَارِبٍ
بِسِنْدَالِ حَدَّادٍ وَتَكْرِيرِ ضَرْبَةِ
(وَهَاجَتْ بِكَ) أيضًا من أوصافي وشتائمي الكثيرة والمبالغِ فيها (الأَصْدَاغُ) جمع صُدْغ، أي: أحسست بصُداع فتَّاكٍ في صُدْغَيْكَ وكأنه أتى (مِنْ وَقْعِ ضَارِبٍ) من تأثير عِرْقٍ ضاربٍ في الرأس يُسَبِّبُهُ ويجعله غيرَ مُحْتَمَلٍ على الإطلاق، وكأنه صُنِعَ لك على الخصوص، ووُضِعَ (بِسِنْدَالِ حَدَّادٍ) أي: تحته أو بداخله على الحقيقة، بحيث إذا طَرَقَ الحدادُ على السندال -أو السندانِ لغتان- أصابَتْكَ ضربةٌ مماثلةٌ لضَرْبَتِهِ على السندال، (وَ) يتكرر ذلك مِرارًا وتَكرارًا بـ (تَكْرِيرِ ضَرْبَةِ) الحداد حينًا بعد حينٍ، كما هو الشأن عند الحكماء إذا أرادوا إلحاق الضرر بعاصٍ مُتَهَتِّكٍ.
غَدَا الزِّيجُ مَضْبُوطًا وَقَدْ طَارَ فِي السَّمَا
يُحَاكِي مِنَ الأَكْوَانِ أَضْوَاءَ نَجْمَةِ
(غَدَا الزِّيجُ) أي: النُّصْحُ والضوابط لحُبنا وللقاءاتنا التي تُشبه الزِّيجَ حالةَ كونه (مَضْبُوطًا) بالضوابط الأخلاقية والتي يعرف بها الحب العُذْري (وَقَدْ طَارَ) بسببٍ من هذا الانضباط وهذه الأخلاقِ العُذْريَّةِ (فِي السَّمَا) أي: ارتفع وسما من السمو، وهو (يُحَاكِي) في طيرانِه وارتفاعِه وسمُوِّه (أَضْوَاءَ نَجْمَةٍ مِنَ الأَكْوَانِ) -وفيه تقديم وتأخير للضرورة الشعرية- فكذلك حُبُّنا ولقاءاتُنا وما شابَهَ ذلك حين تكون مضبوطةً ومحكمةً بالضوابط العُذْرية، وحين تكون مراميها نظيفةً، وأغراضُها مُثمرةً.
تم شرح القصيدة والحمد لله أوَّلًا وآخِرًا، وصلى الله على محمدٍ وآله أجمعين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلانات