2018/03/19

القصيدة الميّتة ... قصة الأديب : مصطفى الحاج حسين .

القصيدة الميّتة ...

                            قصة : مصطفى الحاج حسين .

     
                  لم أكتب من شهرين ، ليس من عادتي

ذلك . كان لا يمرّ اسبوع ، دون أن أكتب قصيدة أو

 أثنتين .. ولكن لا عجب ، فما يحدث يبعدني عن

 الحياة كلها ، يخيّل إليّ أنّ قدوم الموت خير منقذ

 لي .. مشاكل كثيرة .. في كلّ جانب من حياتي ،

 تتطاول مشكلة وتكبر .. هل الموت هو الخلاص ،

 يبدو لي ذلك ، وبخاصة حين أرى أهلي الذين

 ترشحهم آمالي لمساعدتي ، يشكلون عصابة على

 زوجتي ، وحين تشكو أصبّرها وأواسيها :

- اصبري ياهيفاء .. تعرفين أنني لا أستطيع

أن أتحداهم .

- ولكن إلى متى ؟.. بعد أن أجن !؟.

- وماذا تريدينني أن أفعل ، هل تريدين أن نطرد من

 الببت ، وتعرفين أنّ لا مال لديّ ؟!؟

- ومتى سيصبح عندك مالاً ؟ .. وأحوالك تزداد

 سوءاً ..؟

       أبتلع غصتي بصمتٍ :

- لا ذنب لي ياهيفاء ، حظّي سيء ، ألا ترين أنّ

 الفشل يتربّص لي وراء كلّ مشروع .

- أنتَ طوال عمرك ستبقى فاشلاً .. لأنّكَ لاتسمع

 كلامي .

- اسكتي ياهيفاء .. اسكتي .. كيف أسمع كلامك ؟! ..

 أترين أن أبقى أجيراً عند الناس ؟ .

- على الأقل أفضل ، من كلّ مشاريعك ومخطّطاتك .

       وهنا أكاد أفقد صوابي .. وأصرخ :

- مابها مشاريعي ؟!.. إنها ليست فاشلة ، اسألي أيّ

 غبيّ في العالم ، هل يفضّل أن يبقى أجيراً ، أم

 يفتح دكاناً على حسابه ؟..

ليس ذنبي أنا إذا الدكان لم تنطلق .. حوّلتها

من عملٍ إلى آخر ، صرت " مسبّع كارات " ،

تصليح غازات ، بيع أدوات كهربائية ، دهانات

، استدنت من التجار ، دينت الزبائن .. وصرت أعوي

 وراءهم ، ولا أحد يدفع لي .. والتجار يطالبونني

 بمالهم .

       حتى بيع الخضار لم أنسه .. وماذا كانت

 النتيجة ؟.. خسارة كبيرة خلال أسبوع واحد .

       ويستمر الحديث ، وغصّة ملء الحياة تُنشب

 أظفارها في حنجرتي ، ومرارة تكبر في حلقي .

 حينها تنسحب هيفاء من الحديث .. فأشعل

 سيجارة وأطلب كأس شاي .

       فجأة تعود هيفاء للكلام .. وكأنّها سكتت

 لتستريح :

- هنا شطارتك فقط .. شاي ودخان وقراءة

كتب .

       أشتم الشاي والكتب :

- أنتِ تعرفين من قبل الزواج حبّي للشاي ،

وتعرفين أنّي شاعر ، وهل هناك شاعر لا يقرأ

.. ؟! ، يكفي أنّ قراءاتي تكاد تنعدم ، ويكفي

أنني منذ أكثر من شهرين لم أكتب أية قصيدة .

- حمّلني السبب أيضاً .

- نعم أنت السبب .. عشرة أشهر ونحن متزوجان ،

 ماذا كتبت ؟؟!! .. ثلاث قصائد ؟

.. كنت أكتب أكثر من خمس قصائد في الشهر

 الواحد .

       وهنا يلذ لهيفاء أن تعيد أسطوانة السخرية :

- وماذا استفدنا من شعرك ؟؟.. أعرض كلّ قصائدك

 للبيع .. لن يدفعوا لك قرشاً واحداً.

وأعود لأصرخ :

- هيفاء .. لم أعد أحتمل، إذهبي وأحضري إبريق

 الشاي .

       تذهب هيفاء ، وأبقى وحدي ، في غرفتي

 اليتيمة ، المفروشة بسرير وأريكة وخزانة وماكينة

 خياطة لهيفاء .. ومسجلة صغيرة . وأسأل نفسي :

- هل أخطأت في زواجي من هيفاء ياترى ؟.

أكانت ' ناديا " أفضل ؟ .

       وأتذكر " ناديا " ، أمدّ يدي للدرج ، أستخرج

 جريدة ، فيها قصيدة لها، مع صورتها .. أتأملها ملياً ،

 وأقرأ القصيدة بتلذذ وأغوص في الذكريات :

- ناديا.. أحبّكِ ، كتبتُ عنكِ أكثر من مائة قصيدة ،

 لقد خلّدتكِ ، أصبحتِ " ماتيلدا"  أو " إلزا " .

       وتبقى' ناديا " صامتة .

- ناديا .. أحبّكِ .. أرجوكِ تكلمي .

ترفع رأسها ، أبصر في عينيها قرارها النهائي:

- شادي .. أنتَ تعلم أنّي مهندسة ، وأنتَ عامل،

 وأهلي ..

       فأضع يدي على فمها ، أرجوكِ فهمت ..

نفترق ، وجرحٌ بمسافة الأرض يفترشني :

- ستندمين ياناديا .. لن يكتب عنكِ سواي .

وأحتسي الشاي وأنا أفكر :

- هل أحبّ هيفاء حقاً ؟ .

نعم .. ويجب عليّ أن أحبّها .. لقد رفضت الكثيرين

 من أجلي ، منذ طفولتها وهي تحبني ، وظلّت تنتظر

 حتّى طلبتها .. هيفاء جميلة ، أجمل من

 نادية ..وأكثر طولاً ، لكن لو كانت تكتب الشعر ، أو

 تحبه على أقل تقدير .

       وتنام هيفاء .. أعرف أنها تضيق بنور

المصباح .. ولكنّ رغبة شديدة في الكتابة تتملّكني ..

 هل سأفلح ؟.. بتّ أخجل من أصدقائي ، كلّما

 سألوني :
- هل من جديد ؟! .

       لكن مشكلة من نوع آخر ، تنبثق من داخلي ،

 صرت أخاف الكتابة .. إنّي حزين ولو كتبت

 قصيدة ، فسيأتي ناقد ويقول :

- لماذا هذا الحزن والتشاؤم ؟!.. أكتب عن الفرح ،

 والأمل ، والوطن .

       ولكن أين الفرح ؟.. لا أستطيع أن أكتب إلّا عن

 تجربتي .. وسيأتي آخر يقول :

- هذه قصيدة غنائية ، فلماذا لا تتحوّل إلى

الكتابة الواقعية ؟! .

       ماأكثر توجيهات النقاد واقتراحاتهم ؟..

هذا يطالب بالواقعية .. وهذا بالغنائيّة .. وهذا

 بالبنيويّة .. وآخر بالسرياليّة ، وهذا يريد البساطة ،

 والثاني يريد التّصوير،وسواه يطالب بالتّرميز ، ولا

 بخلو الأمر ممن يطالب باستخدام الأسطورة ، هذا

 يقول :

- لماذا تهجر شعر التفعيلة ؟! .

كلّهم متناقضون .. والكلّ يطالب ويتّهم ..

- أكتب قصيدة طويلة .. فهي تساعدك على سبر

 أغوارك ، القصيرة سهلة .

- أكتب بحساسيّة الثمانينات

- تحدّث عن الجزئيات .

- لا .. بل عن الكلّيات .

- ضع الجمهور في حسبانك .

- ارتفع عن الجمهور .

- لا .. تتخلّ عن القافية .

- لا .. تقع في المباشرة .

- أكتب مثلي تكن شاعراً .

- لا تخالفني تنل النجاح .

       كيف لي أن أكتب ؟.. وكلّ هذه الأمور

تدور في رأسي ؟! .

       هيفاء .. تتقلّب على السّرير ، ترفع رأسها بعض

 الشيء .. تفتح عينيها قليلاً .. وتسأل :

- هل انتهيت من الكتابة ؟

- لم أكتب بعد .

- شادي .. أرجوك أن تطفئ النور .. ألن تذهب إلى

 الدكان باكراً ؟ .

- حسناً لن أكتب بعد اليوم .

       ينطفئ المصباح ، تنطفئ رغبتي في

الكتابة .. ونشتعل أنا وهيفاء .. وتلوح لي ناديا ..

 فأذهب .. وأذهب بعيداً .. ولا أصل .

                    مصطفى الحاج حسين
                              حلب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلانات