2017/09/14

إقلاق راحة ... قصة الأديب : مصطفى الحاج حسين .

إقلاق راحة ...
قصة : مصطفى الحاج حسين .
استطعتُ أن أنجو ، انطلقتُ راكضاً ،
بعدَ أن تسللتُ على أطرافِ أصابعي ،ركضتُ
بسرعةٍ جنونية ، يسبقني لهاثي ، يربكني
قلبي بخفقانهِ ، يعيقُ الظّلام من سرعتي ،
خاصة وأنَّ أزقتنا مليئة بالحفرِ وأكوامِ
القمامة .
أخيرا وصلتُ ، على الفور أيقظتُ
الشّرطة ، تثاءبوا ، تمطّوا ، رمقوني بغضبٍ ،
وحينَ شرحتُ لهم ما أنا فيه ، أخذوا
يتضاحكونَ ، سألني الرقيب :
ـ هل أنتَ تهذي ؟!..
أقسمتُ لهم بأنّي لاأهذي ، ولستُ في حلم ،
بل ما أقوله حقيقة ، وإن كانوا لا يصدقونَ
فعليهم أن يذهبوا معي ، ليشاهدوا
بأعينهم ، وليشنقوني في حال كان كلامي
كاذبا .
لكنَّ المساعد المناوب ، أخبرني ، بعد
أن تظاهر بالاقتناع :
ـ نحن لا نستطيع تشكيل دورية
للذهاب معك ، إلاً بعد أن يأتي سيادة
النقيب .
وحينَ سألته ، عن موعدِ مجيءِ سيادة
رئيس المخفر ، أجاب :
ـ صباحا .. بعد التاسعة .
ولولا خوفي الشّديد من رجالِ
الشّرطة ، لكنتُ صرختُ بوجههِ :
ـ لكنّي لا أستطيع الإنتظار ، إنّ الأمرَ
غاية في الخطورة .
كبحتُ انفعالي ، وسألته برقةٍ
واحترام :
ـ ألا يوجد هاتف في منزل سيادته ؟ ..
صاح المساعد ذو الكرش المنتفخة :
ـ أتريد أن نزعج سيادته ، من أجلك
أيّها الصعلوك ؟.!.
وتمنيت أن أرد :
ـ أنا لست صعلوكاً ، بل مواطناً ، أتمتع
بالجّنسية ، والحقوق كافة ، ولكنّي همست :
ـ حسناً يا سيدي ، هل لك أن تدلّني
على منزل سيادته ، وأنا أتعهد لك بالذّهاب
إليه ، والحصول على موافقته بتشكيل
الدّورية .
وما كدتُ أنهي كلامي ، وأنا في غايةِ
التهذيبِ والاحترام ، حتى قذفني المساعد
بفردةِ حذائهِ المركونِ قربَ سريره ،
وبصراخهِ المخيف ، قائلاً :
ـ أنتَ لا تفهم ؟!.. وحقّ الله إنّكَ
"جحِش " .. أتريد أن تذهبَ إلى بيته ؟!!..
يالشجاعتكَ !!!.. انقلع .. وانتظر ، وإياكَ أن
تعاود ازعاجنا .. قسماً " لأحشرنك "
بالمنفردة .
جلستُ أنتظر ، لم أستطع الثّبات ،
أخذتُ أتمشى بهدوءٍ شديدٍ ، عبرَ الممرّ
الضّيق ، وأنا أراقب عقاربَ السّاعة ..
الدقيقة ، كانت أطول من يوم كامل ..
وعناصر الشّرطة عادوا يغطّونَ في نومٍ
عميقٍ ، اكتشفت أنّ جميعهم مصابونَ بداءِ
الشّخيرِ ، صوتُ شخير المساعد أعلى
الأصوات ، رحتُ أتخيّل مقدار قوّة الشّخير
عند سيادة النّقيب .
تململتُ ، ضجرتُ ، يئستُ ، فقدتُ
قدرتي على الصّبرِ ، فصرختُ :
ـ يا ناس أنا في عرضكم ....
رفعَ الشّرطي رأسه ، حدجني بعينينِ
ناعستينِ ، وزعقَ :
ـ اخرس يا عديمَ الذّوق .
خرستُ ، وانتظرتُ ، عاودتُ المشي في
الممرِّ ، ومراقبةِ الثّواني ، دخّنتُ مالا يحصى
من السجائرِ ، أحصيتُ عددَ بلاط الممرّ
عشرات المرّات ، طالَ انتظاري ، تجدّدَ
وتمدّدَ ، ضقتُ ذرعاً ، نفذ صبري ، وطلعت
روحي ، اكتويتُ بنار الوقت ، قلقي
يتضاعف ، فمرور الوقت ليس من صالحي ،
عليّ أن أفعل شيئاَ .. هل أعود بمفردي ؟..
لكن ، يجب أن يكون أحد معي ، شخص له
صفة رسمية ، لكن ما باليد حيلة .. فخطر
لي أن ألجأ إلى أخي ، فهو أقرب الناس
إليّ .
خرجتُ من المخفرِ خلسة ، هرولتُ ،
ركضتُ ، وكنتُ أضاعف من سرعتي ، حتى
أخذتُ الهث ، العرقُ يتصبّب منّي غزيراً .
قالت زوجة أخي " عائشة " ، بعد أن
رويت حكايتي لأخي :
ـ نحنُ لا علاقة لنا بالمشاكلِ .. عد إلى
الشّرطة .
خرجتُ من بيتِ أخي " عبدو " ، والدّموعُ
تترقرقُ في عينيّ ، تذكّرتُ كلامَ المرحوم
أبي :
ـ الرّجل الذي تسيطرُ عليهِ زوجتهِ لا

ترجُ منه خيراً .
توجّهتُ إلى أبناءِ عمّي ، طرقتُ عليهم
الأبواب ، وتوالت الأكاذيب :
ـ " محمود " .. ذهب إلى عملهِ باكراً .
ـ " حسن " .. مريض ، لم يذق النوم .
وبخشونةٍ .. قال " ناجي " :
ـ أنتَ لا تأتي إلينا ، إلاّ ووراءكَ
المصائب .
" يونس " ابن عمّتي ، أرغى وأزبدَ ، أقسمَ
وتوعّدَ ، لكنّه في النهايةِ ، نصحني أن أعودَ
للمخفرِ ، حتى لا نخرجَ على القانون .
قرّرتُ أن أعودَ إلى حارتي ، هناكَ
سألجأ إلى الجّيران ، قد تكون النّخوة
عندهم ، أشدّ حرارة من نخوة أخي ، وأبناء
عمّي ، والشّرطة ، ولمّا بلغت الزّقاق ،
صرختُ :
يا أهلَ النّخوة الحقوني .. الله يستر
على أعراضكم .
فتحت الأبواب بعجلةٍ ، خرجَ النّاس
فزعينَ ، التفّوا حولي ، يسألوني ، وأنا أشرح
لهم من خلالِ دموعي ، لكنّ جاري " فؤاد " ،
أخرسني :
ـ نحن لا علاقة لنا بكَ وبزوجتكَ ...
اذهب إلى الشّرطة .
عدتُ إلى المخفر ، وجدتُ المساعد
ونفراً من العناصرِ مستيقظين ، واستبشرتُ
خيراً ، حين ناداني :
ـ هل معكَ نقود أيّها المواطن ؟.
ـ نعم سيدي .
ـ إذاً اذهب وأحضر لنا فطوراً على
ذوقك ، حتى ننظرَ في أمرك .
دفعتُ معظمَ ما أحمل في جيبي ، تناولوا
جميعهم فطورهم بشراهةٍ ، تمنّيتُ أن
أشاركهم طعامي ، فكّرتُ أن أقتربَ دونَ
استئذانٍ ، أليست نقودي ثمنَ طعامهم
هذا ؟.!.. وحينَ دنوتُ خطوة ، لمحني
المساعد واللقمة الهائلة في فمه ، فأشار إلي
أن أقترب ، سعدتُ بإشارةِ يده ، واعتبرته
طيب القلب ، نسيتُ أنّه ضربني ليلة أمس ،
بحذائهِ الضّخم ، وحينَ دنوتُ منه ، أشارَ :
ـ خذ هذا الإبريق واملأه بالماء .
اشتعلَ حقدي من جديدٍ ، اشتدّ نفوري منه ،
ومن عناصره .
ها هي السّاعة تتجاوز الحادية عشرة ،
ورئيس المخفر لم يأتِ بعد ، ولمّا اقتربتُ
من المساعد مستوضحاً :
ـ يا سيدي .. لقد تأخر سيادة النقيب .!
رمقني بغضبٍ ، وصاحَ :
ـ لا تؤاخذه ياحضرة ، فهو لا يعرف
أنّكَ بانتظارهِ .
في الثانية عشرة وسبع دقائق ، وصل
النقيب ، هرعتُ نحوَ مكتبهِ ، لكنّ الحاجب
أوقفني :
ـ سيادة النقيب لايسمح لأحد
بالدخول ، قبلَ أن يشربَ القهوة .
المدّة التي وقفتها ، تكفي المرء أن يشربَ
عشرة فناجين من القهوة .. ولما هممتُ
بالدّخولِ مرّة أخرى ، أوقفني الحاجب من
جديد :
ـ سيادته لا يسمحَ لأحدٍ بالدخولِ ، قبلَ
أن يوقّع البريد .
انتظرتُ ... دخنتُ لفافتين قبل أن أتقدّمَ ،
لكنّ الشّرطي باغتني بصياحه :
ـ سيادته لا يقابلَ أحداً قبلَ أن يطّلع
على جرائدِ اليوم .
لاحت بالباب فتاة .. شقراء .. ممشوقة
القوام ، لا تتجاوز العشرين ، عارية
الفخذين ، والكتفين ، والصّدر ، والظّهر ..
تضعُ نظّارة ، وتحمل حقيبة ، تجرُّ خلفها
كلباً غزيرَ الشّعر ، مثل خاروف .. نبح عليّ
بوحشيةٍ ، راحت تخاطبه بلغةٍ لم أفهمها ،
اتّجهت نحوَ مكتب النّقيب ، انحنى
الشّرطي ، فتحَ لها الباب ، دلفَ الكلب
للداخل ، ثم تبعته ، دوت في أذنيّ عبارة
حفظتها :
ـ سيادته لا يسمح لأحد بالدّخول ...
لكنني مددّت رأسي ، وحاولتُ الدّخول
خلفها ، جذبني الحاجب من ياقة قميصي ،
وثبَ الكلب نحوي ، نابحاً بعصبيةٍ واحتقارٍ :
ـ سيادته لا يسمح لأحد بالدخول ، قبل
أن ينصرفَ ضيوفه .
أدخلَ الشّرطي إليهم ثلاثة فناجين من
القهوة ، سألت نفسي :
ـ هل يشرب كلبها القهوة أيضاَ ؟؟؟!!!...
طالَ انتظاري ، الضّحكات الشّبقة
تتسرب من خلف الباب ، والشّرطي في كلّ
رنّة جرسٍ ، يدخل حاملاً كؤوس الشّراب ،
الشّاي ، الزّهورات ، المتّة ، الكازوز ، الميلو ،
الكاكاو ، وإبريق ماء مثلج ، وأخيراً .. دخلَ
حاملاً محارم " هاي تكس " ، الضّحكات
تتعالى ، ونباح الكلب يزداد ، كلما نظرت
نحو الباب .
تمنيت أن يفتح الباب ، ويطل عليّ
كلبها ، حينها سأرتمي على قوائمهِ ، وأتوسّل
إليه ، ليكونَ وسيطاّ لي ، عندَ سيادة رئيس
المخفر ، لكنّني تذكّرت ، فكلبها للأسف لا
أفهم لغته .
وبدونَ وعيٍ منّي ، وجدتّني أهجم
نحو الباب الموصد ، أدقّه بعنفٍ .. وأصرخُ :
ـ أرجوكَ يا جنابَ الكلب ... أريدُ مقابلة
النقيب .
وما هي إلاّ لحظات ، حتى غامت
الدنيا ، توالت اللكمات ، الرفسات ،
اللعنات .................
والنّباح يتعالى ... ويتعالى .. ويتعالى .
وحين بدأ العالم يتراءى لي ، وجدت
نفسي .. ملقى في زاوية الزنزانة ، غارقاً في
دمي .
مصطفى الحاج حسين .
حلب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلانات