قطار العمر ..
بقلم : هــبــــه عبد الغني عبد المحسن
على حافة قضبان السكة الحديدية كان يسير بخطى مرتعشة غير واثقة ذلك الرجل العجوز مرتديًا حُلةُ سوداء يبدو عليها الفخامة - رغم أن طرازها يعود لزمنٍ بعيد - يُدفئ نفسهُ بمعطف من الصوف قد أحالت شمس الزمن لونه إلى الرمادي الباهت ..
يســـــــــيـــــــــــر .. غير عابئ بصفارات القطارات التي تخلع قلبه وتسحب روحه كلما اقتربت منه ، غير مبالي بما تُخرجه الأفواه ممّن حوله تعجبًا لسيره على حافة القضبان وكأنه ألقى بنفسه داخل حلبة الموت دون صراع .
وإذا بقطار يأتي مسرعًا فيهرول إليه شابًا - تاركًا حقيبة سفره المهلهلة - وينزل عن رصيف الانتظار ويمسك بيد العجوز ويجري به بعيدًا عن القضبان ، ينظر له العجوز متعجبُا حيث أنه عرض حياته للموت من أجل إنقاذه !!
ساعده الشاب الفقير على الصعود فوق رصيف الانتظار لكنه لم يستطع فما كان من الشاب إلا أن حمل العجوز فوق ظهره وصعد به فوق الرصيف ..
وما أن صعدا حتى أعتدل الشاب للعجوز ليجد عيناه غارقتان في نهر من دموع الألم والضعف
مسح العجوز دموعه في حسرة وابتلع الغصة المريرة التي وقفت في حنجرته من حزنه على نفسه
وقال : حملت إخوتي دهرًا حتى أنحنى ظهري ، تحملت مرارة الغربة وأنفقت عليهم كل أموالي حتى أني لم أجد ما أعالج به ولدي الوحيد .. أجهش العجوز بالبكاء كالطفل الصغير وأخذ جسده ينتفض وهو يكمل حتى مات وماتت زوجتي حزنًا وألمًا على فراقه..
ربت الشاب على كتف العجوز وقبل أن ينطق مواسيًا ..
قال العجوز : سار كل أخٍ لي في طريقه حياته يقطف ثمار عمره ، أما أنا فأصبحت كالشجرة بلا جذور وبلا أغصان أحيا كئيبًا عالة على الأيام ، أتمنى الموت ولا يأتيني .. أشعر باليأس مع بذوخ أول شعاع للشمس فيحييني ، لأتجرع كل يوم مرارة الوحدة والنسيان ..
قاطعته صفارة القطار فستأذن منه ذلك الشاب ..
- هذه محطتي أعذرني عليّ أن أرحل ففي الصباح طائرتي .. عليّ أن أتغرب فأختي الصغرى ستتزوج في غضون العام وليس لأسرتي عائل غيري
ابتسم العجوز مودعًا
تركه الشاب ورحل ..
فتذكر العجوز كلمة .. فأسرع خلف القطار ينادي ..
إياك والغربة .. إياك والغربة ..
ولم يجد مجيب سوى صوت عجلات القطار مسرعة وابتلع الزحام الشاب واختفى ..
فتوقف العجوز عن الجري خلف القطار قائلاً ..
إياك أن تُعيد الكَرَه ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق